أزمة مناهج الإملاء في الوطن العربي

 

 

 

يعاني أبناء الوطن العربي أجمعه من مشكلة الضعف الإملائي في جميع مراحل التعليم ،وأكبر دليل على ذلك كثرة المؤلفات التي تعالج قضايا الإملاء ، وحسب تتبعي رأيتها تزيد عن مئة وخمسين كتابًا، وتعتبر الهمزة من أبرز المشاكل الإملائية ؛إذ استحوذت على كتب خاصة بها مثل كتاب  (كيف تكتب الهمزة ) لسامي الدهان ، و( الهمزة مشكلاتها وعلاجها ) لشوقي النجار ، و ( مشكلة الهمزة العربية ) لرمضان عبد التواب ، وكثيرًا ما يُتهم الطالب بالتقصير في تحصيله واهتمامه بالإملاء ، ولكن في تصورنا أن المشكلة تنبع من اتجاهين : الأول يشترك فيه المعلم والطالب ، وهذا الاتجاه قد أفاضت الكتب في الحديث عنه ، والاتجاه الثاني : هو صعوبات وعقبات تتعلق بالمناهج الإملائية نفسها وهو موضوعنا ؛ حيث يصطدم الطالب بعقبات عدة أثناء دراسته للإملاء تبدأ منذ المرحلة الابتدائية ، ويمكننا أن نصنف هذه المشكلات كالآتي :

1- كثرة القواعد الإملائية والاستثناءات داخل كل قاعدة : وهذه تبدو واضحة لكل من دَرس الإملاء وتسبب أزمة للمعلم والطالب معًا ؛ حيث تشتت الذهن وثقل كاهله بقواعد يصعب استيعابها وتطبيقها ، ومن الأمثلة على ذلك : قضية كتابة الألف المقصورة في الأسماء التي تزيد عن ثلاثة أحرف ؛ إذ يرون كتابتها دائمًا على صورة ياء ( ى ) مثل كلمة ( مستشفى – مرتضى )، ولكنهم يستثنون منها الأسماء الأعجمية فيرون كتابتها بألف قائمة ( ا ) مثل كلمة ( موسيقا – أمريكا ) ، ويستثنون من الأسماء الأعجمية بعض الكلمات مثل ( بخارى – كسرى ) ، ولهذا تجد من يكتب كلمة ( موسيقى ) بطريقتين هكذا ( موسيقا – موسيقى ) الأولى بناء على كونها اسمًا أعجميًا والثانية بناء على كونها اسمًا يزيد حروفه عن ثلاثة . فتجد عند الطالب حيرة في طريقة كتابتها ،أو أنه يشاهدها مكتوبة في مكانٍ ما بخلاف ما تعلمه ، ومن الأمثلة أيضًا على كثرة القواعد : رأيهم في كتابة كلمة ( يقرؤون ) ؛ حيث تجد لها ثلاث صور هكذا ( يقرؤون ) و ( يقرأون ) و ( يقرءون ) ، الأولى بناء على قاعدة أقوى الحركات ، والثانية بناء على كون الهمزة فيها متطرفة ثم زِيدت فيها الواو والنون ، والثالثة بناء على قاعدة عدم جواز توالي الأمثال ، والآن الطالب أمام ثلاثة نماذج من الكتابة لكلمة واحدة فبأيها يأخذ وأيها يترك ؟ والأعظم من ذلك بأن المعلم أحيانًا قد يخطئ الطالب إن كان المعلم نفسه لا يدرك هذه القواعد والاستثناءات أو أنه يميل إلى أحدها دون الآخر . وما هذان إلا مثالان وإلا الأمثلة على ذلك تطول كثيرًا .

2-  تأثير العوامل النحوية والصرفية في الإملاء : إن علم الإملاء هو جزء من علم النحو والصرف ؛ حيث كانت القواعد الإملائية سابقًا مبثوثة في كتب النحو والصرف مثل ( الجُمّل ) للزجاج ، و( شرح المفصل ) لابن يعيش ، و( همع الهوامع ) للسيوطي ، لكنّ الباحثين أفردوا للإملاء كتبًا خاصة به تسهيلاً على الدارس ، ومما يشكل صعوبة على الطالب هو ارتباط الإملاء بقواعد النحو مما سبب عبئًا إضافيًا على الطالب خاصة في المرحلة الابتدائية ، ويتجلى ذلك بوضوح في مثل ( ماؤكم عذبٌ ) ، ( إن ماءَكم عذبٌ ) ، ( في مائكم ملوحة )، فنلاحظ تغيّر كتابة الهمزة تبعًا للإعراب ، فإذا كان الطالب أصلاً يجد صعوبة في الإعراب فكيف إذا اجتمع الاثنان معًا ؟ ولهذا تجد من نادى بضرورة قطع بين الإملاء وعلم النحو من أمثال ( محمد  بهجة الأثري العراقي ) .

3-  الاختلاف بين المرسوم والمنطوق : ومع أن هذا ليس مقتصرًا على اللغة العربية وحدها ، بل هو موجود في أكثر اللغات ، وللحق فإن الكلمات المخالفة للمنطوق في اللغة العربية قليلة جدًا ومحصورة في بعض الكلمات ، لكنها تعد من مشكلات الإملاء ومن الأمثلة عليها ( هذا – هذه – هؤلاء – الرحمن – لكن ) ، فالطالب يكتبها كما ينطقها هكذا ( هاذا – هاذي – هاؤلاء – لاكن ) ، وهذا نلاحظه -نحن المعلمين – بوضوح جلي في المرحلة الابتدائية مما يجعلنا في موضع حرج أمام طلابنا مما يضطرنا للقول لهم إن هنا مد خفي أو إن هذه الكلمات تحفظ هكذا دون مراعاة النطق ، وأيضًا الرسم الخاص بالقرآن الكريم يسبب ازواجية عند الطالب ؛ إذ يرى كلمات تكتب خلاف ما تقرأ مما يجعلنا نقول إن هذا رسم خاص بالقرآن الكريم لا نعمل به في الإملاء العام وهذا التعليل يجد صعوبة في تقبل الطالب له . ومن الأمثلة أيضًا على ذلك كتابة ( مئة ) ؛ حيث مازال بعضهم يكتبها على الطريقة القديمة ( مائة ) قبل التنقيط ، ومن الأمثلة أيضًا كتابة ( عَمْرو ) حيث نزيد الواو في حالة الرفع والجر وذلك للتفريق بينها وبين كلمة ( عُمَر ) ، وهذه القضية كانت مهمة في الفترة التي لم يكن بها رسم للحركات ، أما الآن فالحركات هي التي تفرق بينها ، لكننا مازلنا نكتب على الطريقة السابقة ونخصص دروسًا لذلك حتى لا يقع الطالب في الخطأ ، وكان بإمكاننا نضع الحركات وتنتهي المشكلة .

4-  اختلاف آراء العلماء حول القاعدة الواحدة : ويبدو لي أن هذا أهم عامل يسبب إرباكًا للمعلم وللطالب معًا ، ومن الأمثلة على ذلك : اختلاف العلماء في كتابة الألف المقصورة في الأسماء الثلاثية  مثل ( رِضا- خُطا ) ، فعلماء البصرة يرون كتابتها تبعًا لأصل الألف فإن كان أصله واوًا كُتبت ألفًا قائمة ( ا ) كما في كلمتي ( رِضا – خُطا ) ، و إن كان أصلها ياءً كُتبت ألفًا على صورة ياء ( ى ) مثل كلمة ( هدى ) ، لكنّ الكوفيين يرون كتابة الاسم الثلاثي الذي على وزن ( فُعَل ) أو على وزن ( فِعَل ) دائمًا على صورة ياء هكذا ( رِضى – خُطى ) ، وهنا يجد الطالب نفسه أمام نموذجين ؛ خاصة أنه تعلم على طريقة واحدة وهي في الأغلب طريقة البصريين ، لكنه يجدها في الكتب الأخرى مكتوبة على طريقة الكوفيين فتحصل عنده حيرة لِمَ كُتبت هكذا ؟ فضلاً أن بعض المعلمين أنفسهم لا يعلمون بهذا الخلاف لكنه يرى كلمات مكتوبة بناءً على هذا الخلاف فيحتار في أمرها أيضًا . ومن الأمثلة أيضًا على اختلافهم قضية تحول همزة الوصل إلى همزة قطع إذا انتقل الاسم إلى العلمية  ( أي أصبح علمًا ) مثل كلمة ( استقلال ) فإنها عندما تصبح علمًا على فتاة تُكتب همزتها قطعًا ( إستقلال ) ، لكن بعضهم رفض هذا التحول وأبقى الهمزة على وصلها ومن أبرز الرافضين سيبويه لأنه يرى الانتقال من اسم إلى اسم لا يغير في شكل  الهمزة ، فالطالب الآن في كتابة العلم يكون بين شكلين ( استقلال – إستقلال ) ، وكثيرًا ما سألنا تلاميذنا عن صحة كتابة بعض المعلمين على السبورة ( يوم الإثنين ) بقطع همزة كلمة ( الاثنين ) لأنها أصبحت علمًا على يوم معين ، بينما يشاهدون بعض المعلمين يكتبونها هكذا ( يوم الاثنين ) ببقاء الهمزة على وصلها ؛ لأنهم على رأي سيبويه وأصحابه ، بل حتى أن كتاب القواعد للصف السادس عندما يكتب (أل ) التعريف ، فإنه يكتبها بهمزة وصل هكذا ( ال التعريف ) ويكتب في الهامش علمًا بأنها تتحول إلى قطع لأنها أصبحت علمًا لكننا رأينا كتابتها وصلاً حتى لا يلتبس الأمر على الطالب ، وهذا اعتراف منه بالإرباك الحاصل في المناهج الإملائية . وأحيانًا تجد أن قاعدة إملائية مشكورة في بلدٍ ما لأن كتب الإملاء في ذاك البلد تعتمد عليها ، وفي بلد آخر لا تشتهر عندهم هذه القاعدة فتجد الاختلاف في الكتابة ، كما في كلمة ( مسؤول ) ، فإنها مشهورة عند المصريين كتابها على نبرة ( مسئول ) ، بينما عندنا في المملكة المشهور كتابتها  على واو ( مسؤول ) ،وإذا علمنا أن سابقًا كان أكثر المعلمين من مصر عرفنا جيدًا الاختلاف بين ما تعلمه المعلم وبين ما يدرسه للطلاب ، وفي النهاية نحن نحتاج إلى قرار ملزم يوحد قواعد الإملاء بين الدول العربية ، وسوف نستعرض في مقال لاحق لأبرز جهود الدول العربية ومجامع اللغة والباحثين في محاولة ضبط المناهج الإملائية .

معلم لغة عربية بمدرسة السلام الابتدائية بسيهات .