خصمُ الوطن

 

 

 

كثيرون هم ممن تخرجوا من أسوار كليات المعلمين، دونما أملٍ لهم في توظيفٍ قريب؛ لذلك تجدهم يتنقلون بين وظيفةٍ وأخرى بالقطاعات الخاصة، وحالي لم يكن ليختلف عنهم كثيراً، فأنا وهم كنا بالانتظار.

بانت بشائر التعيين أخيراً بعد سنةٍ من التخرج، كنت فيها بين مطعمٍ، مركز تسوقٍ وآخرها مصممٍ في إحدى المطابع، عندما هاتفني أحد الأصدقاء عبر الجوال بوعود إدارة التعليم المطمئنة؛ وذلك لوجود وظائف تعليميةٍ شاغرة.

كان من نصيبي أن عُينت بالحدود الشمالية، وبالتحديد منطقة الجوف، وحتى أكون أكثر تحديداً عُينت بقرية تسمى  "صوير".

صوير قرية صغيرة، تبعد عن مدينة سكاكا مركز منطقة الجوف حوالي ٢٠ كيلاً، شملها البنيان المتواضع مؤخراً، لا شيء مختلفٌ فيها، مركزٌ للبلدية، مكتبٌ لإدارة التعليم، مراكز صحية و مركزٌ للدفاع المدني.

بدأ العام الدراسي بشيءٍ من الفتور والملل؛ ربما لأنها كانت فترة تعارف، سواء مع زملائي المعلمين، أو مع الطلاب كذلك، فاختلاف البيئة، اللهجة والمصطلحات، لزمت مني الكثير من الوقت لأتكيف معها. ناهيك عن الإجازات المتتالية، فقد كان لها الدور الأكبر، فالعودة للقطيف ومن ثم الرجوع منها يترك أثراً عميقاً في النفس.

الأيام كذلك لم تكن مختلفة كثيراً، بطيئة، متشابهة، لا شيء مثير في الأرجاء، سوى مواقف مشاكسة كانت تقطع فترات الملل بين الفينة والأخرى.

(1)

في صباح أحد الأيام استوقفني طالبٌ عند الممر المؤدي لغرفة المعلمين:

استاذ شفتك في التلفزيون بالقطيف.
واقعاً لم يكن قد رآني، لكنه كان يتقصد استفزازي لمعرفة حقيقة ما قاله، أو كذب رواية من أفشى له بهذا السر العظيم، فكل ما كانوا يعلمونه أني من الشرقية فقط، وهذا ما لم يكن يشبع نزعتهم الطائفية!
لذلك آثرت الصمت متابعاً طريقي بعد أن ابتسمت في وجهه مقللاً من عظيم إنجازه.
حتى سنحت له الفرصة أخيراً ليتحدث أمام الطلاب، بينما كنت أتجول في فترة المناوبة المخصصة لفسحة الطعام.

تدرون من وين أستاذ تقي؟ من القطيف وأنا شايفه في التلفزيون.
فاستدرت ناحيته مخفياً انفعالي، مركزاً عيناي بعينه:

يا عبد الرحمن إن بين الحق والباطل أربعة أصابع، فهناك فرق بين ما تراه وبين ما تسمعه، وأنت تعلم جيداً ما أعني.
إن الله عز وجل عندما يحاسبنا يغفر ويرحم وهو أرحم الراحمين، لكنه يغفر ويرحم في الأمور المتعلقة به سبحانه، أما تلك الأمور التي تكون بين العبد وأخيه فهي تظل ، وأنا أحوج وأحرص للحسنات منك، فلحظتها لا أظن بأنني سأكون بدرجةٍ من الكرم لأسامحك.
عمّ الصمت لبرهة حتى نطقت أصوات متفرقة على استحياءٍ ممن حوله:

تكفى سامحه يا أستاذ.
لم أنتظر كثيراً حتى وجدت الأسف يزيد من إحمرار وجهه، فقلت له بأنني سامحته على ما بدَر منه، إلا أن يكون قد عاود الحديث في هذا الأمر مجدداً، فحينها يستحيل أن أسامحه في الدنيا وحسابنا يكون بين يديه سبحانه.
أشحت بوجهي عنه بعدها، وابتسامة عريضة ترتسم في داخلي لم أكن لأفضل أن أظهرها.

(2)

مضت الأيام تلو الأيام والأوقات المملة لم تكن لتغادرنا، وفي وقت مبكرٍ من صباحات أحد الأيام ...

أستاذ .. أستاذ‫ .. مدرستنا منطوله!‬
قالها لي طالب عند باب المدرسة، كل ما في الموضوع أنه ترك علامة استفهام كبيرة تحوم فوق رأسي، لا أبالغ إن قلت أنها بحجم القفل الذي تفاجأت به مكسوراً عند الباب الداخلي، والذي بدوره ترجم لي بصمته، بأن منطوله تعني أن المدرسة يا أستاذ مسروقة!

(3)

لم تكن غرفة المعلمين بأقل مللٍ مما كانت عليه الحصص الدراسية، فالمواضيع تتكرر بشكلٍ روتينيٍ بائس، هذا يأسف على امتهانه وظيفة التعليم، وذاك يسخر من زميله، وآخر لم يكن ليعجبه شيء في هذه الحياة، فقد كانت له آراءٌ سياسية قاسية وأخرى عقارية وكذلك سياحية.

لكن وبمحض الصدفة، التي لم أكن لأشك في أنها كانت صدفةً من النوع الخاص، بأنه كان مكتفٍ بآرائه العقارية والسياحية فقط، فور نزول راتبين في حسابه كمكرمةٍ ملكية – أستغفر الله إن كنت قد نسيت – فهي لم تعد تسمى مكرمة بل أوامر ملكية بصرف الراتبين. محرماً بعدها أي حديثٍ سياسي، مستغفراً الله على ما سلف!

أستاذ علوم .. خريج كلية المعلمين بالدمام