عاشوراء... ورسالتنا إلى الآخر

تغلب على الخطاب الطائفي لغة التعالي على الآخر، ولغة الهجوم على الآخرين وانتقاصهم، وينطلق الخطاب الطائفي من منطلق رؤية الذات والجماعة في أعلى عليين، وتفرض الجماعة نفسها عبر خطابها الطائفي على أنها شعب الله المختار، وينتقص الآخر ويتهجم عليه وتشوه صورته... الخ، بكل الوسائل الممكنة.

وليس غريباً أن يصطبغ الخطاب الطائفي بلغة التعالي وتضخم الأنا وتجبرها وتكبرها، رغم ما في الأديان والمذاهب والعقائد من مباديء وقيم راقية وسامية ونبيلة، فما الخطاب الديني الطائفي إلا وجه من أوجه أمراض تضخم الأنا، التي تستعير عناوين مختلفة لتحقيق غاياتها، فمرة تستعمل الدين وأخرى تلوذ بالقبيلة وثالثة تتجه للرياضة ورابعة تستعمل اللغة أو التخصص أو الثراء والطبقية... وهكذا، والمرض والمعضلة واحدة تتكرر في أوجه متعددة عبر الزمان والمكان والجوهر واحدٌ، والمعضلة مستمرة عبر العصور، لتعبر عن الغرائز البشرية وصراعاتها وتمظراتها وتوجهاتها، وهي تحتاج باستمرار لمن يداويها، خصوصاً إذا غابت تلك الأنظمة والقوانين الرسمية الحديثة الناظمة والموجهة والضابطة لها.

وفي عالمنا الإسلامي خصوصاً انفلات خطير في ضبط قيم التعصب والغلو في رفع الذات وانتقاص وظلم الآخر، يعزز ذلك مفاهيم وأفكار دينية خاطئة بل خطيرة تغلغلت في نفوس وأدمغة معظم شرائح المجتمع الدينية الملتزمة وغير الملتزمة فسادت عبر العصور وراجت.

وهنا تأتي أهمية ضبط وتوجيه الخطاب الديني ونقده خصوصاً في ظل غياب الضوابط الرسمية واشكالاتها وصعوبتها، وفي ظل ما تعانيه الأمة من تمزق وتشرذم واحتراب وانقسام متزايد ومستمر.

والخطاب الشيعي لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون استثناءً يتجاوز تلك الحالة، فهو في النهاية خطابٌ ديني تفسيري بشري يتعرض لمختلف عوامل التعرية والتغيير، فتدخل نزعات البشر غير المعصومة وأهوائهم وأمزجتهم وتوهماتهم لتلقي بظلالها على النص الديني وتفسيره، لتخرج لنا في النهاية في بعض الصور صور مشوهة للدين تطمس القيم والمباديء النبيلة في الدين وتشوهها، ما يحتم بالضرورة وجود مراجعات ونقد تصحيحي وجهود جادة لتجاوز تلك المآزق والإنحرافات.

ورغم أن الخطاب الديني الحسيني العاشورائي في جوهره ومضمونه وأصوله وحقيقته خطاب إنساني يعلي قيمة العدل ويرفض الظلم والوحشية والفساد، إلا أنه بقدرة قادر، على أفواه ومن فوق منابر بعض الخطباء، خصوصاً أولئك الذين يستعملون المنبر كمصدر رزق وأداة استرزاق، وارتبطت علاقتهم بجمهورهم، وبمنافع ذلك المنبر المادية والدنيوية لهم، بقدرتهم على إثارة الجمهور ودغدغة المشاعر، وأولئك أيضاً الذين جعلوا الدين مطية لألاعيب السياسة القذرة، تحول إلى خشبة مسرح غارقة في الإثارة والإستعراضات المعززة لصراعات المذاهب.

إن التعامل مع المنبر على أنه أداة لرشق عقائد الآخرين ومذاهبهم والتهكم عليهم، خطأ فادح وقع ويقع فيه فئات مختلفة من مختلف أبناء المذاهب الإسلامية لأسباب عدة، ولا شك أن هذا التراشق المذهبي من فوق المنابر حالة سلبية مدمرة وخطيرة يجب أن تنتهي ويجب التنبيه لها والتحذير منها، وهي في أحسن حالاتها بزعم دعاوى الإصلاح التي يطلقها بعض المتعصبون للتبشير الديني لا تؤدي غرضها ولا حاجة لها في زماننا الحاضر زمن الفضاءات المفتوحة والفتن المفتوحة، فالتراشق والتهكم على مذاهب الآخرين لا يؤدي إلى هداية أحد، أو تحوله من مذهبه لمذاهب الآخرين، والتاريخ يثبت ذلك، والأفكار كلها باتت متاحة عبر مصادرها المختلفة التي تبتعد بنا عن الحاجة للغة الاستفزاز والإستعراض ورشق الآخر، الذي يعزز التراشق المتبادل.

إن ما يجب أن يقدمه خطاب عاشوراء وخطاب الإمام الحسين وما يليق بمدرسة أهل البيت وبمدرسة الرحمة المحمدية المهداة، إنما هو في حقيقته خطاب إنساني، ملتصق بالعدل والدعوة للإصلاح، بعيداً عن الإستفزاز وإثارة الآخرين وتجريحهم والتهكم على عقائدهم، مهما أخطأ آخرون وتوحلوا في ذلك. ولذا فالمرجو هنا من خطباء المنبر الحسيني الأجلاء، أن يضعوا خطاب تقديم قيم الإصلاح التي لا تفرق بين بني الإنسان، على الخط الحسيني النبوي والإسلامي الصحيح، وضمن اللغة الإنسانية الراقية والصحيحة، البعيدة كل البعد عن أمراض التعالي واستعراض العضلات وظهور الأنا وتضخمها، سواء كانت أنا الفرد أو أنا الفئة والجماعة، التي تدعو أصحابها للرشق والإستعراض، لعلنا بهذا نجنب الأمة شرور التمزق والفتن التي يذكيها البعض من هنا ومن هناك، عبر خطاب عاشورائي راقي ومحترم يليق بالإسلام وبالإمام الحسين . وأتباع أهل البيت ، جديرون بتقديم مثل ذلك الخطاب إن شاء الله.