هل هناك فرق بين الحيادية والموضوعية؟

كتبت مقالا سابقا قبل مدة من بعنون ”الحيادية.. إما قرار عادل، وإما قرار ظالم“، وبحثته من زاوية اجتماعية دون التطرق والتعمق في بقية أشكال الحيادية المتعارف عليها بين عامة الناس، وقد بينت مفهومها على أنها الميل أو الانحياز لطرف ما، فناتج تلك القراءة أن تولّد لدى بعض القراء الكرام تساؤلات، ومنها؛ لماذا لا يقال بأن الحيادية هي شكل من أشكال التفكير الموضوعي لدى الطرف الذي وقف عندها؟ وكأنما ينظر هؤلاء لمبدأ الحيادية على أنه حالة من النضج العقلي والفكري يصل إليها الإنسان في مرحلة عمرية معينة نتيجة خوض تجارب واستيعاب مواقف حيادية مختلفة، ومن يدعم هذا الرأي حول الحيادية فهو يؤكد أنه خلاصة عصف ذهني طويل حتى تشكلت رؤية من خلالها بنى عليها موقفا محايدا، ولهذا من يقف موقفا محايدا فهو ناتج عن تفكير عميق تبلور منه رأي، وعلى ضوئه تكوّن لديه مفهوم عن الحيادية لا يقف عليها إلا أشخاص صقلتهم تجارب الحياة وبلغوا مرحلة من الرشد والنضج العقلي.

ونحن لا نختلف مع هذا الرأي، ولا مع من يذهب إلى هذا المفهوم، حيث إن الحيادية ليست في جانب السلب على نحو مطلق، وليست دوما في جانب الإيجاب. تبني القرار الحيادي بلا شك هو نتيجة تفكير، وجهد، ومؤثرات وهواجس نفسية وصراع داخلي، حتى وصل بصاحبه إلى نتيجة أن يقف موقفا محايدا، وعلى صاحب هذا القرار أن يتحمل مسؤولية قراره، سواء حقق ذلك القرار جملة من الإنجازات أو كمّاً من الإخفاقات الشخصية أو الاجتماعية.

وهنا يهمنا أن نبين الفوارق بين مفهوم الحيادية ومفهوم الموضوعية حتى لا يلتبس علينا المفهومان، ونضعهما في قالب واحد، ومن ثَمّ يصعب علينا فهم طبيعة هذا القرار هل هو ناتج تفكير عقلي أو هو ناتج صدمة عاطفية قد لا يكون للعقل أي دور في اتخاذه. كما هو معلوم هناك فوارق كبيرة بين التفكير العقلي والتفكير العاطفي، حيث إن التفكير العقلي هو من يبحث الفكرة من كل الاتجاهات المحيطة بها دون إهمال أو استهانة بأي بُعد من أبعاد تلك الفكرة، بل يجر العقل للبحث عن المزيد من المعرفة والدراية في بواطن الكتب العلمية والتخصصية لكي يقف على رأي صلب وقوي وغير خاضع للعواطف البشرية.

إن صاحب التفكير العقلي لا يكتفي برأيه الشخصي وبحوثه العملية، بل تراه يذهب إلى أبعد من ذلك في قراءة تجارب الآخرين وما شابه ليستفيد منها، فضلا عن ميله إلى المشورة مع أصحاب الخبرة وذوي التخصص، لكي يتوسع فهمه وإدراكه وعلمه فينعكس على قوة قراره ورأيه.

أما الجانب الآخر من التفكير العاطفي فهو من يعتمد على ركائزه الفكرية الهشة، وينجر سريعا نحو عواطفه النفسية، وينحبس فيها بعيدا عن منطقة العقل الكاشفة للرؤية الواضحة، فتراه يتخبط، ويتزمت برؤاه دون الاستماع للرأي الآخر واستيعابه، وما إذا كان يصب في صلاحه أم لا، أو سواء كان ذلك الرأي صحيحا أو خطأ. هذا ما يعبر عنه بالتفكير العاطفي أو بالشخصية العاطفية، وهي نوع من أنواع الشخصيات المنبوذة والمذمومة اجتماعيا، بخلاف الشخصية الأولى، وهي الشخصية العقلانية المحمودة.

إذن فالحيادية تتميز بجملة من الأفكار، والآراء والمؤثرات، ومنها يتشكل موقف إما أن يكون ناتج تفكير عقلي أو ناتج تفكير عاطفي أو كليهما حسب درجة وعي الشخص والمصلحة التي تحيطه به.

أما مفهوم الموضوعية فهي تعني الأمانة الأخلاقية والإنسانية في نقلها للمعارف العلمية، والآراء والأفكار، دون زيادة أو نقصان ودون تأثير أو انحياز لأي من هذه المعلومات المنقولة، سواء عن طريق باحثين، أو مفكرين، أو كتاب أو أي طرف آخر.

ومن هذا المفهوم تتشكل عندنا رؤية واضحة بالفارق بين المفهومين، أي بين مفهوم الحيادية كسلوك اجتماعي تطبيقي عملي على أرض الواقع وما يترتب من مواقف معينة تجاه أي ظرف ما بسبب ضغوط معينة أو بسبب تفكير معين، وبين مفهوم الطرح الموضوعي أو الموضوعية كتفكير خالٍ من العواطف، والشوائب الفكرية، والعنصرية، والقبلية والدينية، حيث تتركز عليه الأمانة والنقل السليم دون التأثر بأفكارها أو بقوالبها الفكرية أو الدينية كما سبقت الإشارة، لكن الطرح الموضوعي لا يمكن أن يكون طرحا موضوعيا أو نقلا موضوعيا خالصا إلا إذا تحرر عقل الباحث أو الناقل من كل السموم الضارة التي تطعم هذه المؤثرات على قراءاته أو نقله للحقائق العلمية، أو المعرفية أو التاريخية، وخلاصة القول.. إن الموضوعية لا تكون في المواطن الرمادية.

كاتب رأي، وموظف في القطاع المصرفي.