كلمني شكراً

عندما كنا صغاراً وبالتحديد في أوائل المرحلة الإبتدائية كان محور إهتمامنا كأطفال هو العام ألفين الميلادي ، وما سيشهده العالم من تطورات هائلة في وسائل النقل والإتصال ، حتى كنا نتداول بل ونعتقد ونحلم أنه سيكون بإمكان الإنسان أن يطير من مكان إلى آخر ، متفادياً من لا يريد مقابلتهم ، ودون التعرض لزحمة المرور الخانقة       لا سيما في وقت الذروة ، وبعيداً عن " عيون ساهر " الساحرة ، وذلك من فرط تفاؤلنا بمنجزات العقل الإنساني ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أُخرى قابليتنا الخصبة للإيحاء ممن هم أكبر منا والذين كانوا يروِّجون ( مجاناً ) لتلك التنبؤات المدهشة ، ولم نكن نعير إهتماماً لما أثير فيما بعد بما عُرف بأزمة الألفية والمتعلقة بتقنية المعلومات ، والحمد لله على ذلك الجهل ، وإلاّ لفسدت أحلامنا ، وتبددت مشاعرنا الجميلة لأنه لم يحصل لنا الشرف للتعرف على الحاسوب بعد . ويكفينا سعادة آنذاك بأننا كنا محظوظين حيث شهدنا لحظة تدفق " الريموت كنترول " لأسواقنا وبالتحديد لأجهزة التليفزيون فقط ، وليس لكل ما يحيط بنا كما يحدث الآن !!   

أما اليوم فقد أفقنا من ذلك الحلم البديع لنصحو على مرارة الواقع الذي إغتال في سكون لحظة تأمل كنا نسعد بها ، وكما يذكر عالم الإجتماع " جان لوك روسيه " في رؤيته حول تبدل حياة الناس ، وانتقالهم من حالة البساطة إلى مخانق التعقيد
حيث يقول : " لقد كان الإنسان ينعم في جنة الله في أرضه عندما كان يعيش في القرية ، وعندما انتقل من القرية إلى المدينة أفسدت المدينة قلب ذلك الإنسان الطيِّب " .   

إلى أي درجة تتفق يا عزيزي مع تلك المقولة وأنت تشاهد بأم عينيك كل التحولات الكبيرة في كل شيئ من حولك ، الأحياء تمددت ، والأسماء تغيرت ، والطفولة قبل أوانها راهقت ، والشيخوخة تصابت ، والمسافات تلاشت ، وبعض القيم الجميلة ذابت ، والمعلومات جنّت ، والصداقة تنكرت ، والعشيرة تنافرت ، والطرقات صمتت ، والنخيل المعطاءة أُغتيلت ، والبيوت بالإعلام العابر للقارات أنتهكت ، والنفوس على ذاتها تمحورت ، والملابس إنكمشت ، والأكلات الشعبية  انقرضت ، والصحة تدهورت ، والحرية الشخصية المشوهة اتسعت ، والإنتاجية الفردية قلّت ، والأجواء تلوثت ، والخصوصية أُغتصبت ، وغيرها من الجوانب التي يضيق المجال لذكرها .

مما لا شك فيه أنه - بحمد الله – لا يزال هناك الكثير ممّا يُثلج الصدر لئلا يطغى علينا التشاؤم بشموليته البغيضة ، ونجلد الذات كما هي عادة معضمنا بقسوة متناهية ، ولكن هذا هو بعض الواقع الذي أردت توصيفه بموضوعية ، والتي قد يجانبها التوفيق هنا أو هناك وفقاً للرؤى المتعددة " والمعتبرة " للقراء الكرام . إنما أبسط شيئ يمكن أن نعرضه هنا هو : كيف بات مستساغاً أن تصلك رسالة نصية من أحد معارفك عبر جوالك تقول " كلمني شكراً " فإذا بك لا تملك رصيد لإجراء المكالمة ، وإذا به يغض الطرف عنك عتباً عليك لعدم الإستجابة لطلبه المهذب منك !! أوليست هذه مأساة كنا حتى الأمس القريب في مأمن منها ؟  تحياتي .     

إستشاري سلوك وتطوير موارد بشرية