هل الإدارة بالتخويف ضرورة أم أن الثقة هي الحل

في خضم بحثي المتواصل عن أساليب الإدارة الفعّالة، استوقفني منهجان إداريان يثيران جدلاً واسعاً في أروقة الفكر القيادي، فثمة من يرى أن الإدارة بالتخويف تمثل وسيلة فعّالة للسيطرة، تقوم على التهديد بالعقوبات كالفصل من العمل أو تخفيض الأجر، مما يدفع بالموظفين إلى الالتزام الصارم بالتعليمات، إلا أن هذا المنهج لا يخلو من تبعات سلبية مثل ”ضعف الروح المعنوية وانخفاض مستوى الإبداع والإنتاجية، وارتفاع معدل دوران الموظفين... إلى ما هُنالك“ ناهيك عن التوتر العام في بيئة العمل.

وقد أظهرت الدراسات العالمية الحديثة أن 70% من الموظفين يتركون وظائفهم بسبب تعاملهم مع مدراء سيئين وترتفع هذه النسبة إلى 75% بين الموظفين الجدد «كما جاء في جريدة الرياض» وإلى أن 80% من الموظفين لا يشعرون بالتقدير الكافي في أماكن عملهم مما يؤثر بشكل مباشر على رضاهم وأدائهم كما كشفت مؤسسة ”غالوب الأمريكية“ وهي مؤسسة متخصصة في إجراء البحوث والاستطلاعات الإحصائية

في المقابل، يؤكد تيار آخر أن الإدارة بالثقة هي السبيل الأمثل لتحقيق بيئة عمل منتجة ومستدامه، إذ تقوم على بناء علاقات إنسانية متينة بين القيادة والموظفين، من خلال التقدير المتبادل، والتحفيز، وتعزيز الانتماء، وقد دعمت العديد من البحوث الأكاديمية هذا التوجه مثل دراسة " أثر الثقة التنظيمية في العلاقة بين ممارسات الإدارة بالتجوال وسلوكيات المواطنة التنظيمية.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هو مفهوم الإدارة بالتخويف؟ ومتى تُصبح ضرورية؟ ولماذا تُعد الثقة الخيار الأفضل؟ وهل يمكن الجمع بين التخويف والثقة في نمط إداري واحد؟ هذا ما سنحاول استكشافه عبر هذا المقال.

أولاً: الخوف والتخويف

الخوف: شعور إنساني فطري يبدأ مع الإنسان منذ ولادته، ويُعد من المشاعر المحفزة والمهمة شريطة أن يبقى ضمن حدوده الطبيعية والمتزنة، أما إذا تجاوز هذه الحدود فقد يؤدي إلى آثار سلبية تعيق الإنسان عن تحقيق آماله وطموحاته وأهدافه. وفي المقابل فإن التحكم في هذه المشاعر واستثمارها بشكل إيجابي قد يساعد على مواجهة التحديات والاستمتاع بالحياة بأقصى درجة ممكنه.

أما التخويف: فهو سلوك متعمد يُستخدم لإثارة مشاعر الخوف أو الرهبة والسيطرة على الآخرين، وكما قال المهاتما غاندي ”الخوف أداة يستخدمها الأقوياء للتحكم في الضعفاء، لكنه لا يصنع الاحترام أو الحب“ فالإدارة بالتخويف تُبقي الموظف في دائرة الخوف، لا في دائرة الولاء أو المبادرة.

ثانياً: تأثير الإدارة بالتخويف على فريق العمل

يمكنك كمدير أن تعتمد أسلوب التخويف أو الترهيب لفرض السيطرة، وكسب طاعة الأفراد لتنفيذ الاعمال ولكنك لن تستطيع امتلاك قلوبهم أو ولاءهم، فالقلوب تُمتلك بالتقدير والاحترام والشعور بالانتماء، وهو ما يعجز التخويف عن تحقيقه.

ولذا فإن الخوف وعدم الثقة داخل فريق العمل يُحدث آثاراً سلبية كبير، ليس فقط على الأداء والابتكار بل قد يولّد استياءً داخلياً بحيث يتحول إلى مقاومة أو رغبة في الانتقام، أضف إلى ذلك الانخفاض في الإنتاجية وتدني مستوى الجودة.

فعلى سبيل المثال أحد أصدقائي أخبرني عن مديره في شركة خاصة يكثر من التهديد بالفصل والخصومات إذا لم تُحقق الأهداف بغض النظر عن واقعيتها، صديقي هذا ذكر أن هذا الأسلوب خلق جواً من التوتر والخوف داخل الشركة، حيث أصبح الموظفون يعملون فقط لتجنب العقوبات لا بدافع الإنجاز أو الولاء للعمل، وبمرور الوقت فقد الفريق حماسه، وزادت الأخطاء، وفي النهاية قرر صديقي الاستقالة والبحث عن بيئة عمل أكثر دعماً وإيجابية. وهكذا، فإن الإدارة بالتخويف قد تُحقق انضباطاً ظاهرياً قصير المدى، لكنها تُضعف الكفاءة العامة للمؤسسة على المدى البعيد.

ولذا من المهم على القادة أن يعملوا على خلق بيئة عمل تعزز الثقة والاحترام المتبادل من خلال تقديم الملاحظات بالطريقة المحفزة والبناءة ومنح الفريق المساحة اللازمة لاتخاذ القرار، والتشجيع على التعبير عن مخاوفهم وأفكارهم بحرية.

ثالثاً: متى يصبح التخويف ضرورة

الإدارة بالتخويف ليست استراتيجية دائمة لكنها قد تُصبح ضرورة في حالات استثنائية مثل حالات الطوارئ أو الازمات الكبرى كالكوارث الطبيعية أو الهجمات الأمنية أو لتوضيح خطورة موقف محدد، أو إذا كان هنالك تهديد كبير للنظام مثل حالات الفساد أو الاختراقات الأمنية أو عند وجود أهداف أو مواعيد نهائية لا تحتمل التأخير إلى غير ذلك، لا أن يتحول التخويف إلى أسلوب دائم أو أن يُستخدم بشكل مفرط لما له من عواقب سلبية كبيرة على الافراد والمجتمعات سواء في التربية أو الإدارة أو التعليم أو حتى في العلاقات الاجتماعية.

رابعاً: أضرار الإدارة بالتخويف

حين تُختزل الإدارة في الأوامر الصارمة، وتتراجع لغة الحوار لحساب التهديد تبدأ بيئة العمل بالتحلل من داخلها بصمت لا يسمعه إلا المنصتون لنبض المؤسسة، فهي ليست حزماً كما يُروج لها البعض بل هي خلل في الفهم القيادي وقصور في بناء جسور الثقة مع الفريق، وقد أجمعت الأدبيات الحديثة من كتاب ”قادة بلا أتباع“ إلى أن التخويف قد يحقق الانصياع لكنه لا يحقق الولاء، بل إنه يصنع بيئة هشّة يتجنب فيها الموظفون المجازفة وتختنق فيها الأفكار،

والمفارقة أن من يدير بالخوف غالباً ما يخشاه الجميع إلا الفشل فأنه وحده لا يخافه بل يدعوه ليدخل من الباب الكبير، ومن أبرز اضراره

1 - ضعف الروح المعنوية

فالثقة كما هو معروف تُبنى ببطء، ولكنها تُهدم بسرعه، خاصة عندما يحل أسلوب التخويف محل التقدير، وتتلاشى الثقة ويزداد الانفصال العاطفي عن العمل، فالتخويف لا يفرض هيبة ولا يعكس قوة بل يزرع الخوف ويُضعف الروح المعنوية للفريق حيث يشعر الموظفون بفقدان الدعم والثقة مما يؤدي إلى ضعف ارتباطهم بالمؤسسة وبيئتها.

2 - تراجع الأداء والإنتاجية

حيث يعمل الموظفون بدافع تجنب العقاب أو خوفا من الانتقاد بدلا من السعي لتحقيق التفوق والابداع مما يُضعف الكفاءة ويقلل من جودة الإنجازات، وبالتالي قد يؤدي إلى خلق بيئة سلبية تفتقر إلى التحفيز والابداع

3 - تدهورالصحة النفسية

حيث يعيش الموظفون تحت ضغوط مستمرة مما يرفع من مستويات القلق والتوتر، ويزيد من احتمالات الإصابة بالإرهاق النفسي والجسدي وبالتالي قد يؤدي إلى تدهور شامل في بيئة العمل

خامساً: الثقة الخيار الأمثل للنجاح

بدون الثقة بالنفس يصعب تحقيق النجاح سواء على المستوى المؤسسي أو حتى على المستوى الفردي، ومزاولة المهام والاعمال اليومية وذلك لآن الأشخاص الفاقدين لثقتهم في أنفسهم مهزوزين ويسهل التحكم فيهم وبرمجتهم مما ينعكس بشكل مباشر على بيئة العمل.

وعليه عندما يشعر الموظفون بالثقة في بيئة العمل يصبحون أكثر حماسا، ويعملون بجد للحفاظ على سمعة المؤسسة وتحقيق رؤيتها، إضافة إلى تحسين الصحة النفسية والجماعية داخل المؤسسة.

فالثقة إذا تعني أن يعرف الانسانُ نقاط ضعفه وأن يتغلب عليها، وكما قال بيتر مكينة ”لا تأتي الثقة بالنفس من خلال كونك دوما على حق بل من خلال كونك غير خائف من أن تكون على خطأ“ والثقة ليست كالغرور لآن الغرور يعني الشعور المفرط بالذات حيث يعتقد الشخص أنه أفضل من الاخرين بشكل غير مبرر وغالبا ما يكون مبنيا على تصور خاطئ أو مبالغة

سادساً: كيف نزرع الثقة

لقد ذكرنا أن الثقة بالنفس أمراً هاماً، ولا يمكن ان يؤدي الانسان ما يقع على كاهله من مسؤوليات وواجبات من دون الثقة بالنفس، ولذلك يتوجب عليه أن يستمع إلى صوت نفسه أولاً، وألا يصغي إلى تهكمات الاخرين وسخريتهم، وأن يتسلح بالعلم والثقافة والمعرفة فهما من أهم الأمور التي تزيد من ثقة الانسان بنفسه، ولنا أن نتخيل على سبيل المثال إنسانا جاهلا بالإدارة ولكنه يدّعي العلم بها وآخر خبيرُ بها فمن منهما سيكون واثقا بنفسه عند الحديث عن الامراض الإدارية؟! إلى جانب ذلك يجب على الانسان أن يتعامل ويختلط بكافة أصناف الناس وأنواعهم وثقافاتهم فإن من شأن ذلك ان يدعم الانسان ويقوي شخصيته.

سابعاً: هل يمكن الجمع بين التخويف والثقة؟

الحقيقة أن الإدارة تُعد من أكثر المهام تعقيدا وحساسية حيث تعتمد على التفاعل البشري المتداخل بين القائد والموظفين لتحقيق الأداء الأمثل، فالمدير غالباً ما يحتاج إلى تطبيق أساليب متنوعة تتماشى مع طبيعة المواقف والموظفين، وفي هذا السياق يُثار تساؤل ”هل يمكن دمج التخويف والثقة في أسلوب إداري متوازن؟“

اعتقد من خلال التجربة الذاتية أنه يمكن ذلك إذا تم استخدامهما بشكل مدروس وحكيم، وان النجاح في تحقيق هذا التوازن يعتمد بالدرجة الأولى على وعي القائد بمتطلبات فريقه، وقدرته على اتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب مما يخلق بيئة عمل مثمرة ومتناغمة تحقق النجاح المؤسسي والرضا الوظيفي.

وختاما:

يمكننا القول إن الإدارة بالتخويف والثقة ليستا نقيضين، بل هما أداتان في يد القائد يستخدمهما بحكمة تبعاً للزمان والموقف. تماماً كالسيف والميزان: أحدهما يفرض، والآخر يُقنع. الأولى قد تُنظّم الصفوف لكنها لا تُلِهم القلوب والثانية قد تبني الولاء لكنها تفشل إن خلت من الحزم، لذا لا يكفي أن تكون قائداً يُطاع بل كن قائداً يُتّبع.