تعلمتُ من الإبتعاث !

 

 

لا بد بأن الإبتعاث ورحلة الاغتراب لطلب العلم في بلدان العالم المختلفة, أنها تجربة ثرية تُضفي الكثير من الدروس لصاحبها بشكل يومي, خصوصاً ما إذا كان ذلك المبتعث شاباً في مقتبل العمر, وكما يُقال في الأثر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عليه السلام- : "تَغَرَّب عَنِ الأوطانِ فِي طلَبِ العُلَى, وسَافِر ففي الأسفارِ خَمسُ فوَائِدِ, تَفرّجُ هَمّ واكتِسَابُ مَعِيشَةٍ, وعِلمٌ وآدابٌ وصُحبَة مَاجِدِ".

من هنا جاء ذلك العنوان الكبير "تعلمتُ من الإبتعاث" ؛ لهذا الموضوع البسيط. في محاولة متواضعة لرصد بعض اللمحات الإيجابية السريعة من حياتي كمبتعث, لمحات لم أكن ألتفت لها كثيراً -ما قبل الإبتعاث- , إما لجهل أو لطبيعة البيئة الاجتماعية والأيدلوجية وفي أحيان كثيرة لأسباب متشعبة هنا وهناك.

  • كُنت أرى مظاهر الدين في فطرة مجتمعي, فأينما تكن ستعلم بدخول وقت الصلاة فالمساجد منتشرة في كل مكان, كل شارع وكل سوق, وفي رمضان لا تحتاج أن تسأل عن هلاله فمن ليلته الأولى ستسمع المساجد تتهجد حتى آخر الليل وصباحاً الشوارع خالية من مظاهر الأكل والشرب تماماً.

تعلمتُ
من الإبتعاث, كيف أبحث بنفسي عن أوقات الصلاة, كيف لي أن أتمسك بها بدون أذان ومساجد, تعلمتُ قيمتها المعنوية والروحية في حياتي لا مجرد الممارسة الروتينية لها, حتى صرت أشتاق لسماع أذان المؤذن في الشوارع. تعلمتُ من الإبتعاث, كيف أمارس يومي الدراسي منذ الصباح حتى آخر النهار صائماً, ملتزماً بذلك عن قناعة وإيمان وليس مُجرد رقابة, بين مجتمع يأكل ويشرب نهاراً ويسهر ليلاً.

  • كُنت أسمع بالوطن واليوم الوطني, الوطن في رجل الأمن, واليوم الوطني في الأعلام والألوان الخضراء. كُنت أسمع بأن هناك المنطقة الوسطى,الغربية, الشمالية والجنوبية, وبأن هناك مذاهب أخرى مختلفة, وقبائل مختلفة, وعادات وتقاليد مختلفة أيضاً. كُنت أجهل ذلك تارة وأقرأ بأن هناك خلافات وعداءات بين الجميع تارة أخرى.

تعلمتُ
من الإبتعاث, ما طعم ورائحة الوطن؟!  ليس مُجرد ذلك الجواز الأخضر الذي أحمله في جيبي, بقدر ما هو هويتي هنا أمام الجميع, فقبل كل شيء من أين أنت؟!

تعلمتُ
كيف يكن لي قيمة ومكانة بهذا الانتماء, وكيف أشتاق توقاً لرمال تلك الصحراء, وأنا في أحضان أجمل بلاد العالم. تعلمتُ في اليوم الوطني, كيف أُعرِّف للجميع بتلك الأرض والخارطة مفتخراً بها, أصالة الأجداد وبناء الآباء, تعلمتُ أقرأ تاريخنا الماضي والحاضر والمستقبل وأعد ذلك التقرير ؛ لأعرضه بكل فخر أمام جميع طلاب الجامعة, تحت أنغام "فوق هام السحب وإن كنتي ثرى, فوق عالي الشهب يا أغلى ثرى, انتي ما مثلك بهالدنيا بلد" مستشعراً بلذتها الحقيقية.

تعلمتُ
من الإبتعاث, بأن كل تلك الاختلافات والحواجز المناطقية والمذهبية والقبائلية, ما هي إلا من صنع أيدينا! التقينا في أرض المطار مختلفين بتلك التصنيفات, فوصلنا لأرض الغربة مشتركين في الهدف, الحب والإخاء, تجمعنا نفس الهموم والتطلعات ونفس الكبسة أيضاً! أصبحنا نفرح لفرح أي فرد منا ونحزن لحزنه, عائلة واحدة, جميع من في هذه البلاد لا يعرفنا إلا بالسعوديين فقط. تعلمتُ من الإبتعاث, كيف أمتلك صديقاً وأخاً ليس فقط من شرقية الخير, بل حتى من الرياض وجدة وتبوك وجازان وعسير ونجران, أحظر وأشارك أفراحهم باختلاف العادات والتقاليد, وأتعرف على كل ذلك الجمال في مناطق بلادي المختلفة.

  • كُنت أرى الآخر بأنه عدواً لي, مهما كان ومهما فعل. يبتسم أمامي ويلعنني من خلفي, همه الوحيد هو النيل من ديني, حاقد, حاسد, وكل صفات الكراهية والبغضاء يكنها لي كما أكنها أنا له.

تعلمتُ
من الإبتعاث, بأنه كما هناك نسبة ضئيلة جداً من هذا الآخر, هناك جاري الذي يبتسم لي كل صباح, يُعايدني يوم العيد, و يعزمني على العشاء – الذي أعدته زوجته بدون لحوم احتراماً لي - ؛ ليُعرفني على عائلته وأبنائه. تعلمتُ أن هناك آخر بروفسور له مكانته العلمية الكبيرة والمرموقة في هذه البلاد, يحفظ عن الإسلام الكثير  ويفاجئني عندما يستشهد في حديثه ببعض الآيات القرآنية. تعلمتُ بأن هناك آخر - نادل بسيط في مطعم-, عندما طلبت أحد أنواع الباستا يوماً ما, ولم ألتفت بأنها تُطبخ بالنبيذ الأحمر, جاء ليقول لي: أرى من ملامحك عربياً فقد تكون مسلماً, وطلبك هذا يُطبخ هكذا, وإذا أردت تغييره فتلك الباستا تُناسبك !.

  • كُنت أمتلك سيارة جديدة أقضي بها كل مشاويري, لأعود إلى المنزل وأمي الحنون معدة لي كل احتياجاتي من ملابس وأكل, والبعض لديهم الخدم والسائقين وحياة الرفاهية. كُنت أعتمد في أمور كثيرة على والدي, فأنا الابن المدلل الذي ينتظر مصروفه نهاية الشهر.

تعلمتُ
من الإبتعاث, كيف أستخدم المواصلات العامة وأحفظ مواعيدها, كيف أنتهي من دوام يوم دراسي كامل, حتى أعود لشقتي وأطبخ, أكل محروق, ملح زائد أو ناقص, في الأخير لابُد لي من تعلم الطبخ.

شتعلمتُ كيف أنظم حياتي ويومياتي, فهناك أوقات للدراسة والراحة, وأيضاً هناك تنظيف وغسل ومسح في انتظاري. فلا أم علي موجودة هنا ولا خادمة ولا سائق. تعلمتُ كيف أقسم ميزانيتي من مكافئتي الشهرية, المسألة ليست صرف بدون حساب والله يخلي الوالد وقت الحاجة, كيف أتقضى من السوق اللحم والخضار وغيرها, وأيضاً أراقب اختلاف الأسعار هنا وهناك.

تعلمتُ
كيف أتابع حالات الجو والطقس عند خروجي. تعلمتُ كيف أراجع الدوائر الحكومية, إنهاء أوراقي الرسمية بنفسي, التعامل مع المطارات, السفارات, شرطة الأجانب, تعلمتُ منها جميعاً كيفية الاعتماد على النفس.

و لا زلت أتعلم يومياً الكثير من هذه الرحلة -وقد تكون هناك تتمة- , فالابتعاث ليس مُجرد أموال تُصرف للدراسة وثم امتلاك الشهادة الجامعية, الإبتعاث رحلة طويلة وثرية لبناء ذلك الإنسان, الذي سيبني الوطن يوماً ما.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
امه الله
[ قم المقدسه ]: 8 / 2 / 2012م - 3:33 م
احسنت مع انني اسمع الاذان واعيش الاجوا الروحيه من الصباح الي الليل لكن صحيح ماقلته ان الابتعاث او الاغتراب رحله لبنا الانسان . هكذا الاغتراب والابتعاث والا فلا .