الانحِرَافُ المُقَدَّس

 

 

كُلُّ البشر دون استثناء عاشوا أو يعيشون مستوى مِن مستويات الانحراف، وقد يتذبذبون بين انحراف وآخر... قد يستفزك هذا العنوان والاستهلال، وهذه بُغيتنا.

والاستفزاز نوعان:

  1. استفزاز معرفي فكري انزياحي
  2. استفزاز ديني أخلاقي.

الأول مدعاة للفضول واستكناه المجهول،واتساع الأفق، فيفتح لنا تساؤل يفضي إلى سلالة مِن التساؤلات ليس لنا أمامها إلا التعامل مع اللغة المجازية الانزياحية، والعودة إلى جذور المفردات، والتأويل، وإلا تأزمت علاقتنا بكل شيء!.

والآخر مدعاة للكراهية والقطيعة.

والمفردات اللغوية كمستخدميها تولد، وتكبر،وتزدهر، ثم تضعف، وقد يصيبها الاعتلال والابتذال، وقد تموت، أو ينزاح استخدامها عمَّا وضعت له؛ لقرينة ما، وهذا يقودنا إلى بحث بلاغي أسلوبي دلالي يتمثل في (المجاز) الذي فجَّرَ الدلالات اللغوية للنص الواحد، وأسهم في اتساع الأفق والتعددية الفكرية والعقدية والفقهية وغيرها.

والانحراف واحدة مِن المفردات التي استقرت دلالتها في الذهنية العامة على أنها تعني: الميل عن جادة الصواب والبعد عن القيم الدينية والأخلاقية، وهذا أحد معانيها.

والانحراف مصدر مأخوذ مِن الفعل الخماسي (انحرف) انحرافاً، بمعنى: مال وعدل عن الشيء، والفعل انحرف يتعدى بحرف الجر (إلى) وَ (عن)، ويعمل بدونهما.

وفي المعجم الوسيط "انحرف: مال، ويُقال: انحرف مِزاجُه أي مال عن الاعتدال، وانحرف إلى فلان: مال إليه، وانحرف عن فلان: انصرفَ عنه".

إذن عندما يميل الإنسان عن جادة الحق والصواب، وينعطف عن القيم الأخلاقية فهو منحرف. وعندما يميل عن الشيطان الرجيم، ويعدل عن الهوى، وينصرف عن حُبِّ الدنيا، ويشيح عن الطاغوت، وبكلمة عندما ينصرف عمَّا سِوى الله، ويتوحد همُّه في وجه يكفيه سائر الوجوه، فلا يخشى ولا يرجو، ولا يرغب ولا يرهب إلا الله تعالى، ولا يُحب ولا يبغض إلا في الله جَلَّ شأنه، وتتمحور سائر فعالياته الفكرية، والعاطفية، واللفظية، والحركية في الله تعالى- وهذا هو المفهوم الواسع لكلمة التوحيد – عندما يكون الإنسان كذلك فهو إنسان (منحرف) إلى الله تعالى.

نقرأ في نهاية المناجاة الشعبانية لأمير المؤمنين : (إلهي وألحقني بنورِ عِزِّكَ الأبهج فأكونَ لكَ عارفاً، وعَن سِواكَ منحرفاً، ومِنكَ خائفاً مُراقباً يا ذا الجلالِ والإكرام). والوقوف على هذا المقطع وتحليل العلاقة القائمة بين جمله ومفرداته يتطلب مقالاً مستقلاً لسنا الآن بصدده.

والنتيجة كلنا منحرفون، ولكن ثمة فرقٌ واضح بين انحراف وآخر، انحراف عن الله وانحراف إلى الله جَلَّ وعلا.

الأول يشتتك، يشدك إلى الأرض، يضعك، يستعبدك، يهينك،يذلك، يشقيك...

والآخر يحررك، يقويك، يعزك، يرفعك، يسعدك، ويمهد الطريق أمامك إلى مدارج الكمال، (وإنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السُبلَ فتفرقَ بكم عن سبيله).