أوجه البهجة المستعارة

 

حين يحل الربيع سأبتاع لك السكاكر يا ابنتي ، فقط إنتظري الربيع ‪..‬ إنتظريه ، تعودت “ فرح ” تلك الطفلة ذات السنوات الستة أن تنام على هذه الوعود ،  و لا حيلة لها غير النوم على موسيقاها و ترانيمها ، إعتادت هذه الكلمات و أضجرها تكرار سماعها ، و كما تعودت حديث أبيها هذا ، هي أيضا تكرر السؤال ذاته على أمها صباح كل يوم : أمي .. متى يحين الربيع ؟! ، الأم تهز رأسها و هي تردد لا أعلم يا أبنتي .. لا أعلم .. ليته يكون قريب .

يسيّرالروتين حياتهم و يقتل روحهم ، إنه حقا يقتلهم ، يزعزع السعادة من بينهم و ينتزعها كما تنتزع ضوءها شمس الغروب ، ببطئ شديد لا يكاد يلحظ ، تتدرج في ذلك ، و تبرز فيه أنقى أنواع الجنون ، تبقي عيون الناس تجاهها ، و تبهرهم بمدى جمال ألوانها و تدرجاتها ، في حين أنها تهرول مسرعة للرحيل ، و تسرق ما تبقى من ضوئها معها ، لتترك الظلام سيد الساعات القادمة .

بيتهم يكمن في طرف المدينة ، بعيد عن الزحام و الحركة التي لا تسكن ، مما أضاف جوا هادئ للعائلة أكثر مما هي عليه ، الأب ينهك نفسه في عمله كي ينعم بحياة كريمة تقيه و عائلته شقاء الزمن ، و بالمناسبة هو لا يبلي بلاءا جيدا في ذلك للأسف ، الأم تخرجت من الجامعة لتجلس في بيتها ترعى بيتها ، لم تجد الوظيفة الحكومية التي تأمل ، فما كان منها إلا أن أوكلت امرها لله و وضعت رجلا على رجل تنتظر الفرج ، أما إبنتهما فرح فكانت بمثابة مركز المدينة الذي ينبض بالحياة فيهم .

بالقرب من سرير فرح و فوق المنضدة بالتحديد كانت ترقد زجاجة العطر التي أهداها والدها لها ذات يوم ـ مع انها لم تكن تطيق رائحته ـ  إلا أنها كانت تستشعر علامات الفرح في وجه أبيها كلما رآى الزجاجة بجانبها ، كانت تنتظر أن يزيح والدها عيناه فقط كي تطلق العنان لحلمها ، كم كانت تحلم بأن تستيقظ ذات يوم و لا تجد للزجاجة أثر ، تختفي فجأة ، فجأة هكذا ، رائحته يقرفها و يعكر كل شيء جميل بالنسبة لها .

ذات ليلة ، دخل الوالد و جلس على السرير بجانب فرح و راح يعبث بشعرها و هو يحدثها و يسألها عن يومها ، كانت يدها تعبث بزجاجة العطر و هي تحدثه ، فتقلبها مرة و ترميها في الهواء مرة ، حتى نفذ قليل من شذى العطر خارج الزجاجة ناحية فرح ، تعكر مزاجها و احمر وجهها و ألقت العطر بإتجاه باب الغرفة ثم أخذت بالبكاء ، وزع والدها النظر بينها و بين الزجاجة الملقي عند الباب ، مالك يا إبنتي ! ، هل دخل منه في عينيكي ؟ ، دعيني أرى ، رفعت رأسها و أجابته بالنفي ، نظر لها و قال : فرح ، أنتي تعلمين بأن اليوم الذي لا اراك فيه هو يوم لم يبدأ بعد و أن الكون بدونك أقل إشراقا ، إبتسمي و أرفعي أكف دعائك ، إبتسمي يابنتي ؛ ثم أخذ في التنهد و هو يبعد عينه عن إبنته .

خرج مسرعا من الغرفة مودعا إياها  و إتجه ناحية غرفة النوم ، سألته أم فرح : مالك ؟ أراك على غير طبيعتك !!  ، لم يجبها بل أخرج محفظته الفارغة إلا من أوراق الصراف المتهالكة و بعض الكروت التي تعطي المحفظة متنها المبالغ فيه ، أنزلت الأم عينيها و قد فهمت ما يعنيه ، جلس بقربها و أخذ يقول : أتعلمين .. لا أحلم بالكثير .. أريد حياة كريمة لنا فقط ، فإما أن نكمل حياتنا كما هي .. أو أن نهجر الأمل .. فبشائر الأمل لا تلوح بالقرب .. حرك عينيه ناحية الأرض فلمح مجلة ملقاة بالقرب منه فتحها فلمح صور قد عبثت فرح بها برسم شوارب و لحي بالحبر الأزرق ، رفع المجلة لمستوى فمه و اتجه ناحية الآذان و أخذ يهمس : لا تقتلوا أحلامنا  فهي كل ما تبقى لدينا ، لا تقتلوا الأحلام ، لا تقتلوها ؛ أغلق المجلة و صفعها بالجدار ، أدار رأسه لأم فرح و قال : بشائر الأمل لا تلوح بالقرب و لكن لنحاول صنع القليل منه ، تبسم في محاولة لبعث الأمل في أم فرح ، تبسمت هي الأخرى و خلدا للنوم .

خلدا للنوم ليستعدا ليوم آخر لا يختلف فيه اليوم عن الآخر غير إسمه و تاريخه .