جزيرة الجهلة وعالم المعرفة

لا تنعقد مباراة كرة قدم بشكل صحيح إلا باكتمال عدد اللاعبين، ولا يمكن إعداد وجبة غذائية دون اكتمال جميع مكوناتها الأساسية، وهكذا لا يمكن إطلاق الأحكام بشكل صحيح دون ملاحظة الظروف المحيطة ومعرفة السياقات والتفاصيل الضرورية.

لكن خلافاً لذلك، تجد أن الكثيرين منا يطلقون الأحكام على الآخرين جزافاً، بمجرد سماع أطراف الحكايات. وهنا يكون قصور المعرفة، سبباً لقصور الفهم، والخطأ في إطلاق الأحكام.

وهذه واحدة فقط من الأخطاء الشائعة بين الناس في المحاكمات العقلية، وهي ترتكز على الإستعجال وعدم التريث في إطلاق الأحكام، ونقص المعرفة وعدم الإستناد على ما يكفي من المعارف والمعلومات والتفاصيل. ويمكن تحليل دوافع مثل هذا السلوك البشري. لكننا، لا نريد أن يتشعب بنا الحديث هنا عند دوافع الإستعجال في إطلاق الأحكام بين البشر، في هذه الزاوية من تأملاتنا لتبدلات ساحة حاجات البشر المعرفية والعلاقات البينية فيها، التي صنعت الفروقات في حجم المعرفة المتاحة لصناعة النضج والوعي، عند اصدار الأحكام، أو تبني القناعات.

هنا من أجل أن نختصر، لننتقل بسهولة لموضوع حديثنا في هذه المقالة حول فجوات المعرفة، التي تم ردمها في العقود القليلة الماضية، وأثر ذلك في واقعنا المعرفي والثقافي، يمكننا أن نأخذ تمثيلاً أو تشبيهاً بسيطاً، يساعدنا في فهم دور السياقات والظروف كعامل ضروري وحيوي في صناعة الفارق في واقع وعي الشعوب، وتغيير لعبة «الخطيب والمتلقي» و«المثقف والعامي» و«المتخصص وغير المتخصص».

فتخيل معي هنا، أن المتلقي أو العامي أو غير المتخصص، كان يعيش مع المثقفين والخطباء والمتخصصين في جزيرة نائية في عالم صغير جداً، فيه أطراف قصص وأحداث وحكايات هذا الكون الذي نعيش فيه. وحول هذا العالم الضيق الذي نعيش جميعاً فيه، عوالم أخرى كثيرة كبيرة وفسيحة غنية بالمعرفة، بعيدة جداً عنا، يصعب الوصول إليها، تحتوي أشجاراً لها ثمار، هي تفاصيل قصص العالم الذي نعيش فيه، لكننا محجوبون عنها ومن الصعب جداً وصولنا إليها.

وتصور أنه قبل عقود قليلة من الزمن، كان هناك مركب واحد فقط صغير جداً لنقل الأثرياء معرفياً والمجتهدين في تحصيل المعرفة والحريصين جداً عليها، وهم حينها العلماء والمثقفون والخطباء وآخرون يشبهونهم، فقط دون غيرهم، وذلك من عالمنا الصغير هذا لتلك العوالم الرائعة الساحرة والخلابة، التي لم نراها بأنفسنا قط، والتي اعتاد المحظوظون منا أن يعودوا لنا منها محملين بحكايات العالم التفصيلية، التي يلقونها على مسامعنا فتبهرنا وتدهشنا، ويمكن للكثير منها أن يجلوا لنا الكثير من الحقائق الغامضة في عالمنا، فيجعلنا نفهم العالم أكثر، وهذا يمكن هؤلاء المحظوظين بيننا، أن يتباهوا بما يمكنهم جلبه لنا من ثمار العوالم الأخرى، التي تفيدنا وتهمنا وتبهرنا.

لكن هذا الحال من علاقة الملقي والمتلقي، تبدل شيءً فشيءً مع الوقت، حين شاءت الأقدار أن يولد في العالم بعض العباقرة الذين غيروا صيغة حركة المعرفة في العالم بشكل جذري، فردموا تلك الهوة السحيقة بين عالمنا الصغير الذي كنا محجوزين فيه مرتهنين لمعارفه المحدودة، وبقية العوالم العجيبة المدهشة الغنية بالمعارف والعلوم من حولنا.

وطبعاً، نتيجة ردم تلك الفجوة والهوة بين تلك العوالم المتباعدة، جزيرة الجهلة وقارات المعرفة، أو عالم العلماء وعالم الجهلة، ردمت الهوة بين «المتخصصين والمثقفين والخطباء... الخ» من جهة، وبيننا نحن العوام والجهلة من الجهة الأخرى.

حسناً، لقد أخترعت الكثير من المراكب السريعة وبأعداد ضخمة، بحيث بات بإمكان الجميع حتى الأطفال، الحصول على المعرفة من تلك العوالم، التي كانت بعيدة جداً عنا، فتغير العالم، وسقطنا جميعاً في سياقات وظروف جديدة مختلفة.

هنا سقط الخطيب التقليدي والمثقف التقليدي، وفقد المتخصصون التقليديون الكثير من الدور والهيلمان الذي كان يحيط بهم، وإن كان بعضنا لا يدرك بعد تلك الحقيقة جيداً حتى اليوم، إلا أنها واقعٌ، ونحن جميعاً نسير حتماً لإدراك ذلك في نهاية النفق.

نعم، قبل عقود قليلة من الزمن، كان يكفي كلاً من المثقف والخطيب والعالم المتخصص أن يتحذلق على البقية بمعلومة غريبة أو مصطلح أو تفاصيل علمية أو سياسية أو ثقافية أو اقتصادية... الخ وإن كانت قليلة أو خاطئة، يجلبها من هنا أو هناك، ليكسب مكانة وموقعية ووجاهة، لكن ردم الفجوة بين العالم الصغير وبقية العوالم في عالم المعرفة بعد إبتكار الإنترنت، جعل لعبة التذاكي أكثر صعوبة، فأطفال اليوم قد يعرفون عن هذا العالم أكثر مما يعرفه أي متذاك، كبر حجم جمجمته أو صغر، ولو أقلاً في بعض جوانب هذه الحياة المعاصرة الواسعة الإمتدادات حد امتناع الحصر.

ومع هذه التحولات، وبعد ردم الهوة بين الملقي والمتلقي، أدركت الجامعات والمدارس ووزارات التعليم عبر العالم بشكلٍ أوضح، حاجتنا لصنف آخر من العلماء والمثقفين والبارزين... يختلف عن صنف المتحذلقين الثرثارين التقليديين.

صنف لا يذهب فقط للعوالم الأخرى لجلب ثمار تلك الأشجار التي يجدها هناك، دون بذل أي دور آخر. صنف قادر على التأمل والتحليل ورسم خرائط تلك العوالم ومعرفة أين توجد أو تختبيء أفضل أصناف العلوم والمعرفة، وكيف يمكن العناية بها والإستفادة منها أفضل استفادة، وما هي الأشجار الضارة والخطرة المغروسة في ساحات العلم والمعرفة، وأيضاً ما هي الآفات التي قد تصيب الأشجار النافعة فتدمرها.... وهكذا.

إن الحقيقة التي يجب أن تكون شاخصة أمامنا جميعاً اليوم، هي أن المعارف متوافرة حولنا اليوم بشكل خرافي، والكل قادر على إغتراف الكثير منها، ليظهر كعالم أو متبحر في بحر من بحورها أمام الآخرين، لكنه سيبقى حتماً مهما فعل، جاهلاً أمام ما يتبحر فيه آخرون ويتقنونه، ولن يكون أمامه فرصة للتعالي المعرفي، دون أن يمتلك ما هو أكثر من مجرد حشو بعض المعارف المتوافرة للجميع في رأسه وجمجمته.

لذا فنحن اليوم لسنا بحاجة لحشو ناقل المعارف التقليدي لمجموعة من المفردات والمعارف المتوافرة في جمجمته، فضغطة زر واحدة قادرة على أن تحول الأتباع إلى متحذلقين، والمتحذلق إلى مستمع وتابع، فأغلبنا بات قادراً على الوصول بسهولة للكثير من المعارف المتنوعة التي قد تفوق حاجاته المعرفية. لكن ما لازلنا بحاجة له حتى اليوم هو أن نجد من يفكر خارج الصندوق، ومن يدقق ويحلل ويصنف الأفكار وينظمها ويناقشها ومن يبتكر ويستخرج لنا معارف منتجة... الخ.

من هذا الباب، فقد بات ضرورياً اليوم على جميع المثقفين والخطباء والمتخصصين ورواد معرفة الزمن القديم... الخ، أن يدركوا أن الفجوة بين العوالم قد ردمت فعلاً، وأن الدور التقليدي الذي كانوا يقومون به أو يمارسونه أو يلعبونه قبل عقود قد انتهى زمنه.

نحن اليوم، في زمن لن تستحق فيه كلمة مثقف أو خطيب بارع أو متخصص حقيقي... الخ، ما لم تكن نافذ البصيرة فذ التفكير قوي الوعي قادراً على القيام بمهام عقلية تتجاوز الحشو والنقل التقليدي للمعرفة والمصطلحات والحكايات والأخبار والمعلومات... الخ، المدونة في كومة السيرفرات الرقمية والمصادر المعرفية المتاحة للجميع بضغطة زر.

هنا علينا فعلاً أن نعيد تقييم ذواتنا ووعينا، كي لا نهمش، وأن نعيد فرز المثقفين والعلماء والمتخصصين... الخ، كي لا نصبح أضحوكة الأمم، وأن نعمق فهمنا لماهية الثقافة والمعرفة والعلم في هذا العصر، كي نلحق بركب الحضارة والتقدم، فنضع العلماء في مواضعهم لهداية وقيادة الأمم، ونحجم الجهلة كي لا يضلوا الأمة سبيلها، لأن الجلي والواضح أن الأمم الحية حقاً هي تلك الأمم التي تستطيع فرز ومعرفة علمائها ومثقفيها ومتخصصيها الحقيقيين، لا تلك الأمم التي تسمي الجاهل باسم العالم والعالم باسم الجاهل، فتضل الطريق وتتيه في مسيرات الحضارات.