ما هكذا تكون الوحدة

مسافات شاسعة وفروقات كبيرة بين الوسيلة(الأداة) والغاية(الهدف)، وعندما تتحول الوسائل إلى غايات في حد ذاتها أو تقصد الغايات بغير وسائلها الصحيحة، فإن النتائج تكون وخيمة وعكسية. هذا ما نحاول التنبيه إليه في نقدنا لبعض الطرق المتبعة للوصول إلى الوحدة الإسلامية.

لا شك أن الحفاظ على الوحدة وترميم ما تهدم منها هو من واجبات كل مسلم مخلص لدينه ولأمته، ولكن يجب أن لا ننسى أن هذه الوحدة هي "وسيلة" لغايات كبرى كتحقيق العدل والإنصاف، وحفظ كرامة الإنسان بما هو إنسان، وإتاحة الحريات الدينية، وغيرها من القيم والأوامر القرآنية. عندما أمرنا القرآن بالوحدة الإسلامية فإنه قرنها بعبادة الله، حيث قال عز وجل: ﴿ إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ، وعبادة الله لا تكون إلا باتباع أوامره التي جاء بها كتابه ورسوله الخاتم ومنها ما ذكرناه من قيم وممارسات.

يخطئ البعض الطريق الحقيقي للوحدة عندما يعتبرونها غاية مقدسة –في حد ذاتها- ينبغي تحقيقها بأي وسيلة ممكنة ولو على حساب هذه القيم. فعلى هذا الفرض نقول أن "الغاية لا تبرر الوسيلة".

وعلى الفرض الأول نقول: إذا كان استخدام وسائل خاطئة لا يوصل إلى الغاية، فماذا يكون حال من تكون "وسيلة وسيلته" خاطئة؟

ثلاثة طرق خاطئة يركز عليها بعض دعاة الوحدة المعاصرين نود التركيز عليها أولا، ثم نبين الطريق الصحيح.

1) نسيان أو تناسي التاريخ

سيرا على المقولة الدارجة "الباب اللي يجيك منه الريح، سدَّه واستريح" وتذرعًا بقوله تعالى: ﴿ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون يروّج هؤلاء لتناسي التاريخ، واضعين الآية في غير موضعها ومتناسين أن القرآن مليء بقصص الأمم الخالية والأمر بالتأسي بهم أو التبرؤ منهم.
 
فهل نسيان التاريخ يقود للوحدة؟ وما هي هذه الوحدة التي تقوم على تناسي وتغييب "الحقائق" و"القيم" التاريخية؟

لم نسمع أن أمة من الأمم توحدت عبر تناسي تاريخها الخلافي، بل سمعنا العكس تماما. فهذه الأمة الأمريكية تركز اليوم وعبر كل الوسائل على مساويء فترة التمييز العنصري لمنع تكرار أخطائها اللاإنسانية البشعة والمريرة. في بداية الأمر، لم يمر قانون إدانة وتجريم التمييز العنصري بسلام وقبول كامل بل كان هناك من يتحسس من هذا القانون حيث تسبب في مظاهرات عنيفة واشتباكات دموية من قبل البيض والسود ولم يعترف أي طرف بخطئه، لكن هذا الموقف الشجاع المستحضر للماضي الخلافي المعترف بأخطائه المسببة للخلاف –رغم تحسس البعض- يشكل اليوم الضمانة الأساسية لوحدة واستقرار الأمة الأمريكية.
 
إننا عندما نتصارع بسبب التاريخ فإننا لا نتصارع بسبب أموات أو كتب بالية، بل نتصارع لأجل "قيم"، لأجل إقامة العدل ورفع الظلم من أي طرف كان، ولأجل احترام حقوق الإنسان أيّا كان. إننا نتصارع لأن "حاضرنا" يكرر أخطاء تاريخنا، بل ويسعى أيضا لإخفائها وجعلها في طي النسيان. فهل سيختفي الصراع عبر نسيان الماضي دون إزالة "جذور" الصراع؟ وإذا نسي الماضي فعلا، فكيف سيمكن تدارك هذه الأخطاء في المستقبل ومنع الصراعات الجديدة؟
 
إن تناسي التاريخ هو "عائق" من عوائق الوحدة الحقيقية لأنه يعني تجاهل الأسباب الحقيقية للفرقة. ما يحقق وحدة المسلمين اليوم هو التعرف على مساوئ الماضي والتحذير منها لتفادي تكرارها، وهذا هو الذي يزيل موانع الوحدة الحقيقية.

2) التنقيح الخاطيء للتراث

لا شك أن التراث تشوبه الكثير من الشوائب التي تحتاج إلى التنقيح، ولكن من ينقح التراث؟ وكيف ينقح التراث؟ ولماذا ينقحه؟
هل يترك تنقيح التراث لأئمة المساجد وخطباء المنابر وكتاب الصحف والجرائد؟ هل ننقح التراث لتحقيق أهداف محددة سلفًا وبغض النظر عن الوسائل العلمية للتنقيح؟ هل ننفي أو نثبت بعض ما ورد في التراث لمجرد إزعاجه أو جذبه للآخرين؟ هذا يسمى "تحايلاً" لا تنقيحا. أليست هذه جريمة ترتكب بحق التراث؟ أليس في هذا مصادرة لحق الأجيال اللاحقة في معرفة ماضيها بكل سلبياته وإيجابياته سواء أعجب الآخرين أم لم يعجبهم؟

تنقيح التراث ضرورة لابد منها، ولكن الأهم هو أن تتم عملية التنقيح وفق أسس علمية دقيقة وحيادية تماما تركز فقط على "علمية الخطوات" لتؤدي للنتائج الصحيحة –مهما كانت هذه النتائج-، ولا تتأثر بالمحيط الخارجي مراعاة بعض الأطراف.

لا يمكن لوحدة أن تستمر إذا كانت قائمة على أساس مزيف سرعان ما يكتشف المسلمون حقيقته ويعودون إلى فرقتهم وصراعاتهم والتي ربما تكون أشد عنفا ودموية من السابق لشعورهم بالخيانة والغدر.

3) التخلي عن الاعتقادات والممارسات الدينية

التعدد والتنوع هو مما يعزز الوحدة ويثريها ويحفظ كيانها، بينما لا يؤدي التفرد إلا للمزيد من التشتت والفرقة. عبر التعدد يمكن لكل طرف أن يستفيد من الآخر؛ من إنجازاته وأخطائه أيضا، بينما يؤدي التفرد والإلغاء للآخر للسقوط الحتمي عبر الانهيار الفكري –حيث لا يستمر العطاء الفكري لأي طرف كان إن لم يكن هناك تجاذب فكري مع أطراف وتيارات أخرى مخالفة-  وعبر الغرق في مستنقع الأخطاء المتكررة حيث لا يرى الإنسان ما يعلق بظهره إن لم يكن هناك إنسان آخر يخبره بذلك.

من يريد الوحدة فعلا –لابمجرد الكلام فقط- فإن عليه أن يتحد مع الآخر "المختلف"، لأنه إذا تم تعديل الآخر وتشطيبه وتذويب هويته وممارسة عملية "الفك وإعادة التركيب" عليه ، فإنه لن يكون هناك "آخر" للتوحد معه بل ستكون هناك "نسخة مطابق للأصل" لا يحتاج الأصل ليتوحد معها.

كذلك، فإنه ليس مطلوبا من أي طرف أن يغير أو "يخفف" من عقائده وو ممارساته الدينية ليكون أقرب للآخرين لأنه بذلك يخطو خطوة في عملية "الٍإلغاء" لنفسه لصالح تسلّط الآخر وتفرده. قد تكون الهزيمة النفسية واحتقار الذات أو الرغبة الجامحة للوحدة من أسباب هذا التوجه، ولكنه يسير في الاتجاه المضاد تماما للوحدة، إذ لا يمكن للوحدة أن تستمر مع الآخر المتسلط الإلغائي والمتعالي.

طبعا، هذا ما دامت هذه العقائد والممارسات لا تطال الطرف الآخر وتعتدي عليه بشكل مباشر ماديا أو معنويا، أما عقيدة طرف ما في شخصيات أو أحداث تاريخية معينة أو ممارساته التي تخصه وتؤثر عليه هو، فهذا من حق كل إنسان ولا يحق لأي كان أن يمنعه منها.

قبول الآخر.. الطريق الصحيح للوحدة

تقبل الآخر كما هو واحترامه ومشاركته الحقوق والواجبات هو الطريق الذي يكفل للمسلمين وحدة صادقة ومستمرة. ما دامت الأطراف متعاونة على الخير ممتنعة عن الإعتداء على بعضها، فإن الوحدة تبقى قوية وإن اختلفت العقائد وتضاربت، فالاختلاف سنة من سنن الحياة لا يمكن العيش بهناء إلا بتقبلها واحترامها. 
إذا أقر الإنسان بضروريات الدين، فإنه يصبح مسلما متوحدا مع بقية المسلمين "له ما لهم وعليه ما عليهم" وإن خالفهم في غيرها من العقائد والممارسات. هذا هو دين الإسلام وما جاء به الرسول الأعظم وهو ما يحقق للمسلمين وحدتهم على أرض الواقع.
 
تقبل المسلمين لبعضهم البعض هو ما يسير بهم نحو الوحدة، لا تناسي التاريخ المظلم ومن ثم تكراره بعد ذلك، أو التحايل على التراث، أو تغيير الهوية والعقائد، فكل هذه الطرق ما هي إلا عوامل فرقة وتمزق قد يكون أسوأ مما نعيشه الآن وأدوات تتيح الفرصة لتكرار الظلم ومصادرة الحقوق وخداع المسلمين من قبل ممارسي هذه الفظاعات الموجودين في جميع الأطراف بنسب متفاوتة.

وفق الله المسلمين لأن يكونوا أمة ناهضة وصفا واحدا كبنيان مرصوص كما أرادهم الله وأمرهم، ولأن يتجنبوا عن كل طريق ما يخطئ بهم طريق ذلك، إنه سميع مجيب.