امرأة في منتهى الأنوثة

Kick up ( كيك أب ) مصطلح يعني الركل بالترقية، فعندما تريد إدارة ما أن تتخلص ممن تصنفه خريجا من مدرسة المشاغبين، فإنها تقوم بترقيته ترقية تبعده عن دائرة الضوء والتأثير نهائيا، وتهنئه بخطابٍ ظاهره الرحمة والتقدير والثواب وباطنه التهكم والتقريع والعقاب.

لعل هذا يشبه إلى حد كبير ما تظنه المرأة مكاسب حصلت عليها في عالمنا المعاصر. صحيح أن هناك توجها عالميا للاهتمام بالمرأة وتمكينها وإعطائها حقوقها، وهذا شيء مطلوب، لكن الصحيح أيضا أن المرأة تم اختزالها بشكل قبيح حيث التركيز المفرط على إبراز جمالها الظاهري دون أدنى اهتمام بجمالها الباطني، فأصبح كشف الظاهر وتعريته مفردة لازمة من مفردات حضارة الغرب وثقافته، بل تحول إلى رأسمال يدر مليارات الدولارات في تجارة الرقيق الأبيض.

نقول هذا الكلام لأننا في العالم الإسلامي لم نقم حتى الآن وللأسف الشديد بتقديم النموذج الآخر الذي يمكن أن يكون بديلا منافسا للنموذج الغربي، فلا تزال المرأة في مجتمعاتنا الإسلامية تعاني من حرمانها من أبسط حقوقها، ولا يزال الرجل متسلطا على شؤون المرأة من خلال فهم خاطئ للولاية والقيمومة، وكأننا لم نستوعب بعد كيف استطاع الإسلام صنع شخصيات نسائية متميزة تفوقت على كثير من الرجال.

 أعلم أنه لا يكفي استحضار شخصيات تاريخية للتدليل على الدور الريادي والمكانة السامية التي أعطاها الإسلام للمرأة، بل يجب أن نصنع حاضرا إسلاميا يحترم المرأة ويقدرها حق قدرها، إلا أن استدعاء التاريخ ذو أهمية كبيرة في عملية التمثل والتأسي وإمكانية التطبيق.

وتاريخنا الإسلامي حافل بالنماذج النسائية المشرقة التي يمكن أن تستدعى لتخرجنا من صعقة الانبهار الساذج بالآخر إلى الإمساك بأزمَّة القيادة لذواتنا أولا وللآخرين ثانيا، وأول تلك النماذج أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد .

خديجة اختارت أن تكون السيدة الأولى بحق. كان يمكن أن تكون سيدة أعمال ناجحة فحسب نظرا لثروتها الكبيرة وتجارتها الرابحة، وكان يمكن أن تضيف لذلك زوجا من أثرياء قريش وأشرافهم ممن كانوا يحلمون بالاقتران بها. كان يمكن أن تكون امرأة ثرية مشغولة بجمالها وزينتها تحيطها الأضواء الاجتماعية من كل جانب وفي كل مناسبة.

ولكنها – مع كل ما تملك من مقومات شرافة النسب ونضارة الجمال وثراء المال – اختارت بعقلها الراجح ونظرها الثاقب ووعيها النافذ أن تكون امرأة بحق، فهي تدرك أن قيمة المرأة ليس فيما يزول وينفد بل فيما يبقى ويخلد، ولذا اختارت أن تخطب رجل الخلود الأول والإنسان الأول لتكون السيدة الأولى التي تؤمن به وتحوطه برعايتها وعنايتها،وتكون السيدة الأولى التي تصلي خلفه، وتكون السيدة الأولى التي تضع كل ما تملك تحت تصرفه إنجاحا لدعوته.

حتى قبل بعثته كان ينقطع عنها عدة ليال يتعبد في غار حراء، فكانت لا تضجر من ذلك، بل تعينه على ما يحب، فتزوده بالطعام والشراب ليستعين بهما في الخلوة بربه، ورافقته مرارا في رحلته صاعدة جبل النور رغم وعورة المسلك، وفي ذلك ما فيه من مشقة شديدة على الرجال فكيف بالنساء؟

كان يلاقي الأذى الشديد من قومه المعاندين، فكانت له الصدر الحنون   والمسكن الذي ينسيه آلامه ويشد أزره، يبثها همومه ويشاورها في أموره، فتشاركه حياته الشريفة لحظة بلحظة.

لم تتخل عنه أبدا حتى في أحلك الظروف وأصعبها، حين تعرض للحصار الاقتصادي والاجتماعي الجائر في شعب أبي طالب ثلاث سنوات، حيث الجوع والإقصاء، فبذلت له أموالها التي كان لها الدور الكبير في التخفيف من آثار الحصار، وتحملت معه حياة الجوع وهي التي كانت من قبل في عيش رغيد.

كم هو صعب أن يتخلى الإنسان عن ثروته وجاهه ومركزه ومنصبه من أجل ما يؤمن به من مبادئ. إن هذا أمر لا يقوم به إلا العظماء الذين تدور حياتهم مدار مبادئهم.

 لقد استحقت خديجة أرفع الأوسمة، فجاءها الوسام الأول من الله على لسان أمين الوحي جبريل حين قال للنبي :
( إن الله يأمرك أن تقرأ على خديجة السلام، وبشرها بقصر في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب).

وتقلدت وساما آخر حين أخبرها النبي :
يا خديجة إنّ الله عز وجل ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مرارا.

ولم ينسها بعد رحيلها، حيث قال:
والله ما أبدلني الله خيراً منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدَّقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذ حرمنـي الناس، ورزقني الله أولادها وحرمني أولاد الناس.

بل عمم حبه لها ليشمل كل من يحبها، حيث قال:
أحب من يحب خديجة.

وكان وفيا لها ولكل ما يرتبط بها من ذكريات، يروي التاريخ أن عجوزا دخلت على رسول الله فألطفها، فلما خرج سألته عائشة، فقال: إنها كانت تأتينا في زمن خديجة وإن حسن العهد من الإيمان.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 10
1
عبدالله
[ ام الحمام - القطيف ]: 14 / 3 / 2010م - 10:13 ص
الأستاذ بدر شكرا لتناولك موضوع مهم
هنالك الكثير من النصوص الدينية التي تعارض-حسب فهمي-تمكين المرأة من شغل دور قيادي.
على سبيل المثال لا الحصر.
خير للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال
وقول الشاعر
ولم تر حتى عينها ظل شخصها**حتى غدت في الغاظرية خسرى

فكيف توازن بين تمكين المرأة وهذه النصوص؟
شكرا لك
2
فائق المرهون
[ القطيف - ام الحمام ]: 14 / 3 / 2010م - 6:04 م
الأستاذ بدر / وفقه الله
من الأكيد أن المرأة سلعة في عالم الغرب وثقافته في بعض المفاهيم كالإعلام مثلا , لكنها أيضا ياأستاذ قطعت شوطا كبيرا في مجالات أخرى كالسياسة والحصول على كوتا في البرلمانات المنتخبة , والوصول إلى أعلا المناصب بما فيها الرئاسة , هذا عدا عن بعض الحقوق النقابية ومجالات العمل المختلفة فأين نحن من هذا ؟
أما فيما يخص المرأة لدينا فقد أسهب جنابكم في ذكر منظومة الإجحاف التي تعيشه في عالمنا العربي والإسلامي بجدارة ولن يكون بمقدورنا الإضافة عليكم ياأستاذ .
ولعل استشهاداتكم المختارة بعناية في نهاية المقال تصلح أن تكون أملا لكل طامح للحصول على تلك المرأة التي تستحق لقب النصف الآخر له .
غمرتنا عنفوانا وبهجة , حفظتك مقاديره .
3
بدر الشبيب
[ أم الحمام - القطيف ]: 14 / 3 / 2010م - 10:49 م
الأستاذ عبد الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شكرا لك لمنح مقالي بعض وقتك ورأيك.
أقدر ملاحظتك حول النصوص المعيقة للمرأة من وجهة نظرك، وأرى أن الموضوع يحتاج لتناول أشمل حتى نوفيه حقه.
أسأل الله أن يوفقني لذلك.
دعائي لك بالسمو في سماوات الفكر.
4
بدر الشبيب
[ أم الحمام - القطيف ]: 14 / 3 / 2010م - 11:02 م
الأستاذ العزيز فائق وفقه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المرأة في الغرب تقدمت في مجالات عدة وهذا شيء نقدره للغرب.
وما أدعو له أن نصنع نموذجا متفوقا، وهذا ممكن، فنسبة البرلمانيات العراقيات هي الأعلى في برلمانات العالم مما يدل على نمو الوعي هناك.
أعتقد أن على المرأة أن تبادر لتغيير الواقع لا أن تنتظر التغيير.
دمت محلقا في ملكوت العقل.
5
kick up
15 / 3 / 2010م - 9:12 ص
أحسنت ..

ولكنني أظن أننا أحرزنا تقدماً

واضحاً في هذا المجال .. والحمد

لله رب العالمين .. وبوادر الانجازات

مشاهدَة أمامنا في قطيفنا الحبيبة

و ما المرثون النسائي عنا ببعيد

...

أشد على أيدي المرأة حتى تأخذ

جميع حقوقها .. وفقها الله .. آمين
6
سعد الشبيب
[ المملكة العربية السعودية - القطيف ]: 16 / 3 / 2010م - 4:42 ص
استاذي العزيز بدر

تحية طيبة لك على هذا المقال الجميل ولكني لاارى انه ينطبق في حاضرنا اليوم وهو بعيد كل البعد عن المراة التي نراها في مجتمعنا الحالي

وفقكم الله ...
7
بدر الشبيب
[ أم الحمام - القطيف ]: 16 / 3 / 2010م - 7:34 م
كيك أب
شكرا لك على مرورك وتعليقك.. ونتمنى معك للمرأة في مجتمعنا المزيد من التقدم والرفعة.
8
بدر الشبيب
[ أم الحمام - القطيف ]: 16 / 3 / 2010م - 7:37 م
الأخ العزيز سعد الشبيب
أشكرك على قراءتك وتعليقك.
النموذج الذي ذكرته في المقال هو ما نريد للمرأة في مجتمعنا أن تسعى للاقتداء به حتى تحقق ذاتها أحسن تحقيق.
تمنياتي لك بالتوفيق.
9
beskat alhadi
[ السعودية - الخبر ]: 19 / 3 / 2010م - 11:12 ص
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شكرا جزيلا للكاتب الفذ الاستاذ بدر الشبيب على مااتحفنا به من روائع كتاباته الادبية والثقافية ن اتمنى لك التوفيق وشكرا لك
10
بدر الشبيب
[ أم الحمام - القطيف ]: 28 / 3 / 2010م - 1:48 م
الأخ العزيز ب. الهادي
أشكرك على مرورك على مقالي وتعليقك الجميل الذي ينبعث من روحك الطيبة.
شاعر وأديب