المصلحون وفضح ألاعيب السياسة

السياسة عالم مشوب بالمكر والخداع قد يخوض غماره طوعًا أو كرهًا كثير ممن ظاهرهم الصلاح وشعارهم تعرية الظالم، ورفع الظلم، وقضاء حاجات المستضعفين في الحدود السموح بها من قبل الظالمين حين تعزُّ الخيارات الأخرى. سبيلٌ وعرٌ يتطلب فهمًا دقيقًا، وصبرًا عظيمًا، وشجاعةً كبيرةً حتى تتحقق هذه الشعارات المعلنة، ولا ينزلق سالكه وتزل قدمه كما زلت أقدام كثير ممن هوى في ظلمات السياسة، وغرق في لججها فخسر دينه ودنياه معًا، فصاحب السلطان كراكب الأسد لا يدري أهو يطوّع الأسد أم يأكله الأسد في نهاية المطاف.

كثيرٌ من المصلحين تمكنوا من اختراق الأنظمة الظالمة والفاسدة فخدموا مبادئهم العادلة والحقة من قلبها ودون أن يشعر لهم أحد، وكثيرٌ ممن أرادوا ذلك -أو أظهروه على الأقل- طوّعتهم هذه الأنظمة للوصول لغاياتها القذرة. بل ربما يعمد الطغاة لاستمالة المصلحين وتقريبهم ليحرفوهم بالإغراء أو التهديد فيجردوهم من قوَّتهم وتأثيرهم.

ويشتد هذا الخطر كلما كان الإنسان متدينًا، عالمًا كان أو مثقفًا، لما فيه من تضخيم لمضاعفات الظلم وانعكاساته لما للدين من عظيم الأثر في حياة الناس ومنظومة مبادئهم وأفكارهم. فجدير بالجميع، وبالمتدينين على وجه الخصوص، أن يتأملوا في شعارات ومواقف أئمة المبادئ ولا سيما الأئمة من أهل بيت رسول الله في مثل هكذا ظروف يضعف عنها الفؤاد وتقل فيها الحيلة، ليسيروا على بصيرة وهدى ولا يتحولوا لأدوات استغفال وخداع للجماهير يسعد الظالمون بتقويتها وحفظها حتى انتهاء صلاحيتها، فترمى بعد ذلك في مزابل التاريخ وتحل عليها لعنة القدَر.

أئمة أهل البيت صالح بعد صالح وصادق بعد صادق جميعهم واجهوا الأنظمة الباغية والفاسدة والقادة المنحرفين كلٌّ في زمنه وبطريقته المميزة، وكان للإمام علي بن موسى الرضا –والذي ستكون مواقفه محور البحث هنا- مواقف تذهل العقول، خصوصًا عند الالتفات لحالة التضييق والإرهاب الشديدين اللذَين أحاطا بالقسم الأكبر من حياة أئمة أهل البيت بما فيهم الرضا.

بعد موت هارون العباسي الملقب بالرشيد، واجه الرضا ابنه عبد الله المأمون الذي كان معجزة في الدهاء والخبث، ومشهورًا بفخاخه السياسية وضرباته القاضية، وكان للإمام الرضا مواقف صريحة جدًا وفاضحة في تعريته وسحب البساط من تحت قدمه، مع الحفاظ على جميع المبادئ الدينية والأخلاقية نقية طاهرة في هذه المواجهة.

ومن الخطوط العامة التي رسمها الرضا لمن يخوض هذا العالم من المخلصين -وإن كان بالإجبار والاضطرار- ما يلي:

1- لا تعطوا أي شرعية للظلمة مهما كانت الظروف:

حرص الإمام الرضا على أن يجرد الطاغية من الشرعية المزيفة التي يظهرها للناس، كما لم يعطِ أبسط مقدار من الشرعية له ولأفعاله مهما صغرت وقل شأنها، ومهما عظم الإجبار والتهديد، ففرق بين التعاطي والمهادنة وبين إعطاء الشرعية للظالمين، فأكبر أهداف الظالم هو الحصول على شرعية -ولو ضمنية- لتمرير ظلمه.

لما أُشخص الرضامن المدينة إلى مرو، قال له المأمون: إني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك وأبايعك! فقال له الرضا: "إن كانت هذه الخلافة لك وجعلها الله لك فلا يجوز لك أن تخلع لباسًا ألبسكه الله وتجعله لغيرك، وان كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك"[1] ، فأظهر انعدام شرعية خلافة المأمون من الأساس! ثم عرض المأمون ولاية العهد، فرفضها الإمام أيضًا مرات عديدة -مما أثار التساؤلات عن سر هذا الرفض وعن شرعية السلطة- حتى هُدده المأمون بالقتل بشكل صريح[2] ، فقبل بشروط تجرد السلطة وقوانينها من أي شرعية ترومها من هكذا قرار وكان من شروطه: "أن لا أولِّي أحدًا ولا أعزل أحدًا ولا أنقض رسمًا ولا سنة وأكون في الأمر بعيدًا مشيرًا"[3] .

2- واصلوا الضغط على الظالمين:

عندما لا يعود الطاغوت قادرًا على احتمال الضغط السياسي الداخلي أو الخارجي، فإنه يسعى لامتصاصه بإظهار جانب شكلي مزيف ومؤقت من التسامح والحرية، ورفع شعار التصحيح وبداية عهد الإصلاح الجديد. هنا يأتي دور القيادات في فضح هذه الأكاذيب، فما بالنا نرى بعضًا من هؤلاء يشاركون في تمرير هذه الأوهام على عقول الجماهير بدلاً من مواجهتها ولو خُفيَة؟!

لقد نسف الإمام الرضا مشروع المأمون بإحكام منذ لحظاته الأولى ولم يسمح له بالتقدم خطوة واحدة للأمام، فعمد لتوضيح مقاصد النظام الإستراتيجية للناس لئلا ينخدعوا بالتكتيكات الملتوية.

رفض الرضا دعوة المأمون بالحضور إلى مرو في بداية الأمر[4]  ليفهم الناس أنه مكره على ذلك وأنه معتقل ومُبعد سياسي وليس مكرمًا كما أريد إظهاره من الموكب الضخم الذي ترأَّسه قائد عباسي كبير قدم لأخذه. كما ذهب وحيدًا ولم يصطحب أسرته معه بعد أن أمرهم بالبكاء عليه كما سيأتي. كل ذلك أظهر وبشكل جلي زيف وِدِّية وإيجابية مبادرة المأمون.

وعندما وصل الإمام لمرو واصل جهوده في إفشال محاولة المأمون استغلاله لتغيير مواقف الحركات المعارضة، فأكد في أكثر من موقف إكراهه على القبول بولاية العهد، ومنها أنه قبض يده في المجلس الذي أمر به المأمون لأخذ البيعة من قبل الناس لولي العهد الجديد[5]  في إشارة لا تقبل التأويل لرفض الإمام هذه البيعة الكاذبة. ولما انتهت مراسم البيعة الشكلية -والتي لم تتم أصلاً- وجلس الإمام، نظر إلى بعض مواليه وخواصه وقال له: "لا تشغل قلبك بهذا الأمر ولا تستبشر له، فإنه شئ لا يتُّم"[6] .

3- افضحوا الجرائم السياسية ولا تغطوها:

لما أراد الرضا الخروج من المدينة إلى مرو، جمع عياله وأمرهم أن يبكوا عليه حتى يسمع بكاءهم، ثم فرّق فيهم 12 ألف دينار لعلمه أنه لا يرجع إليهم أبدًا![7]  وهذا تصريح بأنه سيقتل في هذه الرحلة وإن كان ظاهرها مليئًا بالحرية والعزة، فما هي إلا لعبة سياسية سرعان ما تتمخض عن اغتيال خبيث وبشع للإمام الصامد.

لم يكتف الإمام بالإشارة لاغتياله، بل سمَّى مرتكب الجريمة باسمه والأداة التي ارتكب بها جريمته، ولم يسمح له بأن يغطي على جريمته النكراء بدموع التماسيح والمسرحيات السياسية الزائفة، فأخبر هرثمة بن أعين -وكان من خاصة المأمون وأصحاب الإمام-: " يا هرثمة هذا أوان رحيلي إلى الله تعالى ولحوقي بجدي وآبائي وقد بلغ الكتاب أجله وقد عزم هذا الطاغي على سمِّي في عنب ورمان مفروك... فإذا أنا مت فسيقول أنا أغسله بيدي فإذا قال ذلك فقل له عني بينك و بينه أنه قال لي لا تتعرض لغسلي ولا لتكفيني ولا لدفني فإنك إن فعلت ذلك عاجلك من العذاب ما أُخِّر عنك وحلَّ بك أليم ما تحذر فإنه سينتهي... فإذا أراد أن يحفر قبري فإنه سيجعل قبر أبيه هارون الرشيد قبلة لقبري ولا يكون ذلك أبدا"[8] .

وبعد اجتماعه الأخير مع المأمون والذي سقي فيه السم، صرَّح لأبي الصلت الهروي قائلاً: "يا أبا الصلت قد فعلوها" وجعل يوحّد الله ويمجده[9] .
    

4- لا تصطفٌّوا مع الظالم ضد خصومه أيًّا كانوا:

يكاد القلب ينفطر همًّا والعروق تنفجر غضبًا عندما يرى الحُّرُّ بعض دعاة الإصلاح وبعض معتمري العمامة يذهب بعيدًا فيؤيد الظلمة في التصدي لأعدائهم ومعارضيهم، بل ويطالب الشعب بدعمهم في المواجهات المسلحة مع أعدائهم تحت ذرائع شتى! والأعجب أن من هؤلاء الدعاة مَن كتب وألَّف في سيرة الإمام الرضا!

لقد ألقى الإمام الرضا الحجة على هؤلاء وأمثالهم، فحتى مع التسليم بباطل وانحراف الطرف المواجه للنظام، لم يصدر من الإمام أدنى إشارة تأييد أو ترجيح لأي من الأمين أو المأمون في الحرب الطاحنة التي دارت بينهما فهما شيطانان يتصارعان ولا شأن للمؤمنين الصالحين بهما وبحربهما.

سلام الله على هذا الإمام الصابر، وجعله منارًا للمخلصين في الدروب المعتمة، وهداية لمن جُرِف وحُرِف منهم.

[1]  علل الشرائع، الشيخ الصدوق، ج1، ص278.
[2]  مما ورد في ذلك: ..فغضب المأمون، ثم قال إنك تتلقاني أبدًا بما أكرهه وقد آمنت سطوتي فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلا أجبرتك على ذلك، فإن فعلت وإلا ضربت عنقك. (المصدر السابق)
[3]  المصدر السابق.
[4]  سبيل المعرفة، الشيخ خليل رزق، ص498.
[5]  المصدر السابق.
[6]  الإرشاد، الشيخ المفيد،ج 2، ص 263.
[7]  حياة الإمام الرضا، الشيخ باقر شريف القرشي، ج2، ص286.
[8]  عيون أخبار الرضا، الشيخ الصدوق، ج2، ص246-247.
[9]  مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الاصفهاني، ص378.

ولا يستثنى من هذا إلا ما كان فيه خطر عظيم على الإسلام كما نستظهر من سماح الأئمة الأوائل لأصحابهم بالمشاركة في بعض حروب الظلمة مع جيوش الكفار والمشركين.