ونكسر القلم

المكان مزدحم والحركة مستمرة , والأصوات مختلطة , ويصعب على الأذنُ فهمها , هكذا حال معظم المحلات التجارية مع بداية الشهر الفضيل .

وهز المكان صوت خرق كل أذن , وشد انتباه كل فرد متواجد في تلك البقعة .

هل هو زلزال ؟

هل هو انفجار ؟

وشُقَ غبار الصمت الذي سيطر على المكان لِلحظة .

وارتفع كم هائل من الشتائم والسباب , وأنزه آذانكم عن سماعها , كما تنزه قلمي عن خطها .

تقدمت أقدامي خطوات وهي ترتعش من قوة الصوت , وعقلي يصعب عليه فك شفرات ما سمع .

ووقع بصري على امرأة .

امرأة يرتعش كل جسدها وتكاد الأشياء الممسكة بها أن تسقط على الأرض .

كما كان صوتها المدوي في البقعة كاد من شدته أن تسقط كل الأشياء المعروضة على الأرفف .

اقتربتُ منها بحذر .

وطرحتُ عليها السؤال بخجل ممزوج بالخوف من ألفاظها النابية .

يديها كانت تشير إلى رجل يمثل أحد رموز الدين , ذو مكانه رفيعة في الدين والمجتمع ومحترم من الكبير والصغير .

وأجابت بحروف مقطعة وكلمات غير لائقة .

أما رجل الدين فكانت عيناهُ جاحظتان , ينظر إليها بصمت رهيب .

سألته بهدوء عن السبب ؟

رد باحترام , بصوت أقرب إلى الخشوع والدعاء , و حديثه مطرز بالإيمان .

ولم يكن الحدث يتطلب كل هذه الإساءة والتجريح برموز الدين .

تناقشتُ معها بكلمات هادئ لعلها تسحب موجة الغضب من نفسها .

أحس قلبي وهو يتحاور معها عن مخزون هائل من الحزن والألم .

كما لمستُ حجم معاناتها .

وخيل لي كأنها ترقد على بركان ربما يقذف بحممه في أي لحظة وفي أي مكان .

وكما أن البركان يقضي على كل شيء أمامه لا يميز بين الجميل والقبيح , كذلك أم بنين لم تميز بين الخبيث والطيب , لحظة تلفظها بالألفاظ النابية على رجل الدين .

مسكتُ يديها بنعومة , وتواعدنا على تجديد اللقاء في مكان هادئ وجميل , بعيد عن ضوضاء المدينة .

 انتظرتها في المطعم المطل على البحر , وكان الاختيار متعمد لهذا المكان .

 فقد حدثني به نفسي , وقالت : لعل البحر يغسل كل أحزانها , ويطفئُ نيران حمم براكينها الملتهبة .

وطال الانتظار لساعات .

وبدأ قلبي يقتلُ الأمل في داخلي .

ولكن عقلي أعقل بكثير ويتميز بالصبر , ولم يدخل اليأس عليه لحظة .

 وعندما بدأ عقلي وقلبي يتجادلان فيما بينهم , وحاول كل طرف إثبات نظريته .

لاحت في الأفق سحابة سوداء , تسحب أذيالها , ومن شدت ارتعاش جسمها النحيل يكاد جسدها أن يسقط على الأرض .

احتواها جسدي قبل أن تسقط كما احتوتها كلماتي وحروفي بعد ذلك .

أجلستها بجانبي .

ولم اسأل !!

ولم ينطق لسانِ بحرف !!

غير التحية ورد السلام والتعارف التقليدي !!

أما عقلي فأخذ يغوص في قسمات وجهها !!

وعيني تأملت في جسدها المتهالك !!

وقلبي يحدث نفسه !!

نعم في نهاية العقد الثالث من العمر !!

لكن . لكن !!

جسدها يخبر عن امرأة في نهاية العقد الثامن من عمرها !!

لتصرخ حروفي .

ماهذا الحزن والألم الذي أدى إلى دوران سنوات العمر بهذا السرعة ليتضاعف العمر أضعافه !!

نثرت معاناتها , وسحبت أحزانها , واختلطت الكلمات بالآهات , ومزجتها بالدموع .

وقرأت السؤال المحتجب خلف بريق دموعي .

وقالت : نعم . نعم أكرههم وبشدة .

أتمنى لو تساعدني يدي المرتجفة , لحملتُ أقرب سلاح يقع بين يدي , وقطعتهم لا بل فريت لحمهم .

علمت نفسي أنها فهمت السؤال , كمال عرفتُ المقصود بهذه الأبيات النثرية .

وفجرت حروفي كل ألامها , وغاصت في لهيب بركانها .

وقرأتَ من بين حروفي .

لما هذا الكم الهائل من البغضاء والحقد والعداء لرجل الدين ؟

وقذفت كلماتها وحروفها المتوهجة , كما يقذف البركان الحمم الملتهبة .

وسارت كلماتها في جميع الاتجاهات عشوائية على غير هدى .

ونظرت عيني إلى حركات جسمها . وسمعت أذني حروفها المبعثرة .

وأخذ قلبي يعتصرُ ألمًا على حجم معاناتها .

أما عقلي فعشق الهيام في مفردات ألحانها .

ولساني حاول فك الرموز وقراءة مابين الخطوط .

وقلمي جمع حروفها المبعثرة بعد أن حذف عباراتها الملتهبة .

ونقشها على صفحات أوراقي .

عاشت أم بنين حياة قاسية , وانتهت الخمسة عشر عامًا , وأثمرت ثمرتين في منتهى النضارة والحيوية .

ولم تكن حياتها وردية , كما كان يعتقد أهلها , كانت ترسم السعادة , وتخفي شقاءها خلف إبتسامتها .

وتخفي أنين شتائمه التي شملت حتى أمواتها بتجميل صورته .

وتعلل سجنها داخل قوقعته بكثرة تزاحم أعماله الخيرية وإصلاح المجتمع .

هكذا رجل الدين يجب أن يكون حاضر في جميع قضايا المجتمع , ولا يهمل إصلاح الأفراد بين أسرهم ولا يغفل

عن المشاكل الزوجية , متواجد بكل قوته في المجتمع . هذه وجهت نظره القاصرة .

أما داخل أسرته أساس المجتمع الأول , فهنا تضيع كل بصماته , ويخلع كل ملابس مسؤولياته عن الحياة الزوجية

والأسرية , وحتى دور الأب فأنه وهبه إلى أم بنين .

وتتحمل أم بنين قسوة الزوج , والعيش تحت خط الفقر , رغم وظيفته الحكومية المرموقة .

وتتزين بثوب الأم والأب  , وتبهر العقلاء في تفننها وإتقانها للدورين , وتكافح مع أولادها بصبرها .

وتختم سنوات شقاءها بشاهدين .

وتنحرف مسيرة أقدامها , وتلهث خلف الأبواب الحديدية لتروي عطش الأمومة .

وتنظر من بين الثقوب لتكحل ناظرها برؤية فلذات أكبادها .

وتختلف وجهات نظر رجال الدين , فبعضهم فرش لها قلبهُ قبل مسكنه , وبعضهم ضلت أبوابهُ مغلقة ومشفرة يصعب فك الشفرات .

وتدور بها أقدامها , وتقذفها في هاوية الدفاع عن نفسها وكرامتها وشرفها ونزاهتها .

نظرت إلى خط قلمي .

وتلاطمت أمواج دموعها في عيناها وقالت : ما خطهُ قلمكِ نقطة من بحرٍ هائج .

واعتصرها الحزن , ونهشها الألم , وجرح قلبها الرقيق .

وسحبت الأوراق من بين يدي .

ونقشت بعض العبارات .

كان يمثل الدين والوقار, والتمسك بتعاليم الدين , يلبس جلباب الفضيلة والورع ويتحاور بأدب .

ويخلع كل أدواره عند أعتاب الباب , ويظهر باطنه المحرم ولا يكشفهُ إلا داخل صومعته .

ويتقاعس عن أداء الفروض , ويهمل تربية الأولاد , ولا يهملني من موشحاته ألاذعة , وحواسهُ حاضر بقوة لتشمل أمواتي وأهلي وكل من له صل بي .

أما النظافة الشخصية والأخلاق وسعة الصدر والتزين للأهل والتودد لهم مُسحت وإلى الأبد .

أخفيتُ أوراقي عن عبث قلمها , وقلتُ لها : كل إنسان بداخله الخير والشر , وقد وهبه الخالق العظيم عقلاً وميزه عن بقية المخلوقات فبعقله الراجح الحكيم يعلو إلى درجة الملائكة , بل أفضل منهم لأنه أختار الطريق السليم , أما الملائكة فقد خُلقت لطريقها .

وإهماله لهذه النعمة وتجاهله ينخرط في صفوف البهائم , بل البهائم تتنزه عنه لأنها حرمت نعمة العقل والإدراك .

وهنا أرجح وأحكم عقلي , لا عواطفي وقلبي .

 ويجب احترام كل كائن بشري , وخاصة من يحمل علم وتقوى وورع .

ممزوجة بالإيمان مسخرة لخدمة الرحمن والإنسان .

وتجربتكِ القاسية والمريرة , يجب ألا تعمميها على كل رجل دين .

 وقد لمستِ ذلك بنفسكِ , بعضهم احتضنا ألمكِ وبعضهم تفنن في إغلاق الأبواب .

 وربما كلماته المحتضرة شقت طريقها إلى مسامعكِ في قاعات المحاكم .

ولكن !!!

قالت : أم بنين ماذا تقصدين بكلمة لكن ؟؟؟

لكن يجب احترام رجل الدين عندما يحترم علمه ويقدس الرسالة السامية التي حملها على عاتقه .

يدعو للخير بأفعاله لا بأقواله .

أما رجل الدين الذي يأخذ العلم لتجارة أو لتباهي به أو لمركز اجتماعي بين المجتمع وينهي ويؤدب الناس ويغفل عن ذاته .

فهذا الرجل لا يحترم نفسه فكيف يحترم عقول الآخرين .

صرخت أنها تحرقني !!

وقفتُ مذهولة وقلتُ ماذا يحرقكِ ؟

قالت أم بنين : أنها الجمرة الذي بين ضلوعي !!

واسترسلت أم بنين في الحديث وقالت : مهما وصفت لكِ من ألم ومعانات , فلن يدرك إحساسكِ ولن يحتوي أحزاني .

وأخرجتُ أوراقي وقلمي ليخط بعض الحروف القصيرة .

وتلاعبت بأوراقي وقلمي , وأحكمت أم بنين قبضتها على القلم ونكسر القلم .