النهضة الثقافية كيف ولماذا ؟

 

مفهوم الثقافة بدلالاته أصبح هاجس الأمم المدفوعة لمحاكاة الأمم المتقدمة حضارياً بُغيةَ اللحوق بركبها و مسايرتها رقياً .

و رغم كل ما يحيطُ بمفهومها من غموضٍ يتركها في حالة هلامية مُبهمة عند الأغلب الأعم مما يؤدي به لحالة التنافر و إياها ، فحاجة المجتمع إليها حاجة أساسية لبناء كينونته وتشكيل ملامحه العامة ..

النظرة السطحية للثقافة وحصرها في مجال معين كانت السبب الرئيسي لتبقى على قارعة الإهمال ، فيُعطلُ دورها دون أخذ الثمار المرجوة منها ، لتترك المُجتمع في حالة انفصال متسّع عن المجتمعات الأخرى تُلحظ فوارقه  بالوهلة الأولى ، دون أدنى انتباه من أفراد المجتمع لهذه المشكلة التي تضخمت و أدت لحالتين : الأولى " حالة الجهل الثقافي " والثانية " حالة المثقف المعزول عن مجتمعه " .. وكلا الحالتين بحاجة لمعالجة جذرية تفكُ عرى المشاكل الرئيسية وتبسطها في إيجاد الحلول .

ما هي الأسباب التي أوجدت : حالة الجهل والركود الثقافي ؟

ما دور المثقف في نهضة الثقافة ؟

ما أسباب تعطيل دوره التقدمي في خلق حالة المجتمع الناهض بالمعرفة ؟

حقيقة الأمر عدة أسباب عملت كمنظومة في خلق هذه الأزمة ، منها وليد المجتمع ، والآخر صناعة الأفراد أنفسهم ..

وحيثُ أن معرفة المشكلة نصف الحل ، فالوقوف على أسباب اضمحلال الثقافة كفيل بإيجاد الحلول الجذرية اللازمة لحل هذه المشكلات وهي :

1-الالتزام بالثوابت ورفض المتغيرات الحادثة ، أدى لرفض كل جديد و أنتج ثقافة عقيمة تنظر للتجديد على أنه حالة تغيير جذري مؤدي للفساد دون النظر لماهية هذا الجديد أو إيجاد قاعدة عامة لأداء سلوك عملي تجاهه : قبولاً أو رفضاً .

2-تنشئة الجيل نشأة منفصلة ثقافياً في عدة أسباب :

  • مرحلة ما قبل المدرسة  ، حيثُ في هذه المرحلة العمرية يتم تكوين الأساسيات الرئيسة في ميول الطفل وتوجهاته فضلاً عن بناء شخصيته ، وخلق سلوكيات وتوليد توجهات معينة فيه ، مُعرضة للإهمال من قبل ذوي المسؤولية ( الأسرة – الحضانة – رياض الأطفال )  فذهنية الطفل متوقدة ، لديها نهمٌ شديد للاطلاع والمعرفة فإن لم تجد ما يغذيه أو عانت من تحديده وتقنينه ومنعه فهو معرضٌ للاضمحلال والضمور .
  • مرحلة المدرسة : تكوين حالة العلم المنسوخ لذهنية الطالب وحصرها ضمن سطور معينة المؤدية لخلق عالم محدود و أيدلوجية واحدة يسير الطالب وفقها فلا يحيد عنها قيد أنملة ، إما لمحدودية المدرس   أو لميل الطالب للسهولة الضامنة للنجاح و انحصاره بين دفتي الكتاب و أوراق العمل ..وترسيخ قاعدة الحفظ ، كل ذلك يُوجد حالة من التعمية على فكر الطالب و المدرس على حد سواء فكلاهما في حال تفاعل وتطوّر أحدها كفيل بتطور الآخر .

3-قضية انفصال المثقف عن بيئته وثقافته أمام الانفتاح الفكري والمعرفي ، المؤدية لاصطدامه بقاعدة الثوابت والمتغيرات التي تختلط مفاهيمها إزاء محاولة محاكاة الآخر لإزالة الفوارق التي تفصله عنه ، بالتالي تنتج مشكلة " صورة المثقف المعزول عن بيئته و ثقافته " وتكوين الصورة المموّهة لثقافته وتاريخه  ، هذه المشكلة تحول بالدرجة الأولى عن قيام المثقف بدوره النهضوي مما يجعل الأزمة الفكرية تندفع نحو التفاقم والتضخم .

4-ينتج عن قضية انفصال المثقف وعزلته في بوتقةٍ معينة واختلافه عن مضمون مجتمعه وبيئته يدفعهما لإقصائه ، وهذا بدوره يؤدي إلى تهميش دور المثقف في مجتمعه و تعطيل دوره في النهوض بواقع المجتمع . وهذه المشكلة تقف حائلاً  بالدرجة الأولى عن القيام بدوره النهضوي ، مما يحدو بالأزمة الفكرية للتفاقم والتضخم .

5-استخدام المثقف للمفردات الصعبة والعصية الفهم على الشريحة الكبرى من فئات المجتمع خاصة حين تكون تلك اللغة وليدة الدراسة الأكاديمية في مجال تخصصه .

6-الفكرة الخاطئة المتمحورة في قالب : الثقافة نهج بديل عن الدين ، تدفع البعض للحد من انتشارها جهلاً بضرورتها في مواكبته كوسيلة دعامية يتجدد بها المفهوم الديني لينهض بالمجتمع ويساير التقدم دون الإخلال بأساسياته .

7-محدودية المثقف في إطار معين يستمدُ منه ثقافته في عزلٍ تام لبقية الوجوه الأخرى يضفي على المجتمع صبغةً معينة ولون واحد بعيد عن المعارف والعلوم الأخرى .

لعلّ هذه الأسباب و لربما سواها ؛ كانت المحاور الهامة في تثبيط الثقافة وإنحسارها في فئات معينة ، وركودها أو تماهيها في فئاتٍ أخرى .

وهذا يدفعنا للتساؤل في محفل عرض المشكلة الذي هو نصف االحل ، أين يكمن العلاج ؟

والإجابة تكمن في كل مشكلة يكمن الحل ، التخلص من المشكلة أو محاولة اضمحلالها والسعي لضمورها كفيلٌ بخلق الحلول اللازمة لإيقاظ نهضة مجتمعية كفيلة بخلق التوازن دون إخلال بالهوية .

و كفرضٍ للحل مع حالة التنظير للمشكلة وجذورها :

1-الحداثة و تكوين مبدأ التجديد القابل للتغيير وفق قواعد المتغيرات الحادثة ، في إطار ذاتي لا يخل بصحة الثوابت ، والسماح لهذه الثوابت باستيعاب النشاطات و احتواءها وتوجيهها في الطريق الصحيح .

2-تنشئة الجيل نشأة نهضوية قائمة على تكوين الفكر الواعي القادر على إيجاد الحلول واستنباطها دون تعطيل للعقل أو تهميش لأهمية التفكير .

3-العمل على تنمية الجانب الفكري في الطفل  بالوسائل المرئية والمقروءة و اعتمادها كجزء أساسي من وسائل اللعب الترفيه وتشجيع القراءة وتنميتها لديه ضمن خطط تربوية معينة ، فكما جاء في دراسة للطب النفسي في جامعة نيوانجلاند بأستراليا أن من أهم الطرق الفعالة في ذلك ما يلي :

  • -القراءة مساءً كل يوم للطفل .
  • التعليق بطريقة إيجابية على موضوع القراءة
  • تنويع مادة القراءة .
  • مدح حب الطفل للقراءة .
  • تشجيع الطفل على القراءة ومكافئته على إنجازاته القرائية .
  • مناقشته في الكتاب الذي قرأه .
  • دفعه لاختيار الكتب أو ترشيحها له .

4-الإعداد التربوي للمنظومة التعليمية لتكون قناة استيعاب للطالب وتنمية معرفته وصقل مواهبه .

5-تكوين مصداق حقيقي للمثقف ؛ حيثُ يفترض الفيلسوف الألماني " هيجل " أن الوعي بداية التأريخ وهوية الإنسان ، لذا تكمن حقيقة المثقف في تجلي الوعي والذهنية الحاضرة في كل ما يتلقاه من حادثات على أرض الواقع أو في سلوكه العملي والفكري تجاه الأفكار والنظريات المُستحدثة ، بتعبيرٍ أدق يصف السيد محمد تقي المدرسي الثقافة بـ( المعرفة التي تعطي الإنسان البصيرة في الحياة ) . فالثقافة هي جملة المعارف التي تعطي الإنسان الرؤية الواضحة لقضايا التاريخ ومُجريات العصر ، وتصوّرات المستقبل ، وله في ذلك توجه ما تفرضها عليه ثقافته لأداء دوره مراعاةً للمسؤولية التي ألقتها عليه .

ومن سمات هذا المثقف انطلاقه من بيئته ليكون نموذجاً منها وفيها متكامل الهوية متوازن التوجه بين الأصالة والتجديد ، دون أن يكون هذا المفهوم حكراً على فئات معينة أو أشخاص معينين ، فالثقافة ترتدي ثوب الشمولية لتعم كافة المجتمع ابتداءً بعالم الدين وانتهاءً بأصغر فرد فيها ، ولذا فالفكرة الخاطئة وليدة الجهل بالثقافة عن أنها بديل عن أمر آخر هي مجرد وهم و حيثُ أن الثقافة التي لا تُستمد من بيئتها هي صورة مُموّهة كما يرى الأديب الراحل عبدالرحمن منيف  ( لكي لا نقع في وهم أن المثقف فكرة مستقلة أو بديلة لقوة أخرى ؛ أو أنه فوق الطبقات أو أكبر منها يجب أن نؤكد أنَّ قوة المثقف مستمدة من الثقافة التي يمثلها ومن المواقف التي يتخذها للتعبير عن هذه الثقافة ) و بهذا نصل للفكرة الأخرى المتعلقة بانفصال المثقف عن مجتمعه .

6-حيثُ أن الثقافة ليست بديلاً عن أصلٍ ما ، بل قضية مستقلة بحد ذاتها تعمل على إيجاد الصورة التكاملية للإنسان بما هو كلٌ في مجاله إن كان عالماً أو عاملاً ، أديباً أو فناناً ، هذا يفرض واقع أن المثقف صورة و انعكاس لمجتمعه ، فرد عامل على الموازنة لا صورة نشازة ينبغي التعامل معها بحذر .

7-حالة الموازنة بين روافد المعرفة والعلم بالعودة لمفهوم الثقافة الأصيل و دورانها بين العلوم الطبيعية والاجتماعية التي تمسُ سلوك الإنسان تعطي حالة من التكامل بين العلم الدافع للمعرفة ، وهذا ما يحدو المثقف للاهتمام بجميع أنواع العلوم و المعارف والإطلاع على جميع الحضارات والنظريات والتصورات الفلسفية وغربلتها بهدف إيجاد المفاهيم الصحيحة في اتساعٍ معرفي بضابط الوعي الذي يمكّنه من التفريق بين الزبد وبين ما ينفعُ الناس .

بالاهتمام بالنشء و بإيجاد قاعدة سليمة ومتوازنة بين المثقف والمجتمع يمكن للمثقف فيها بأداء دوره وتكوين الفكر الواعي المصاحب يمكن البدء بخلق حالة النهضة الثقافية السليمة المرجوة .