كيف نكافح التحزب؟

 

تحدثت في المقال السابق عن طبيعة التحزب وأشكاله ومصادره وفداحة ما نعايشه من آثار هذا التحزب في مجتمعنا وكان ذلك حديثاً عن المشكلة، وفي هذا المقال أطرح بعض الاقتراحات التي تساعد -إن أخذنا بها- في الوصول لعلاج لهذه الظاهرة البغيظة أو الحد من استفحالها على المدى القصير على الأقل.

 هذه الاقتراحات تنقسم إلى قسم نفسي وفكري، وقسم عملي، لأنه إذا أردنا حل أي معضلة اجتماعية فلا بد لنا من معالجة الجذور النفسية والفكرية أولا، ثم التحرك على الأرض لتعزيز هذه الإصلاحات النفسية والفكرية في أنفسنا وفي المجتمع لزرع الثقة في إمكانية التطبيق وخلق واقع جديد أفضل من الواقع الحالي المرير.

#008a3e ; FONT-SIZE: 12pt; mso-fareast-font-family: Symbol; mso-bidi-font-family: Symbol">·         #008a3e ; FONT-SIZE: 12pt; mso-ascii-font-family: Calibri; mso-hansi-font-family: Calibri" lang=AR-SA>كيف نكافح التحزب؟ #008a3e ; FONT-SIZE: 12pt" dir=ltr>

1)     اتخاذ القرار الشجاع والصارم بنبذ هذه العصبيات امتثالا لأمر الله ونداء العقل، وتحطيم هذه الأصنام الحزبية التي جعلت من الفئة أمرًا مقدسًا لا ينبغي إشراك غيره معه ولا احتمال صدور الخطأ أو الغفلة عنه.

2)     لا بد لنا من الإيمان بالتعددية والعمل بها فليس كل اختلاف هو خلاف وإنما يمكننا عبر تعدد الطرق أن نصل إلى ذات الأهداف في أكثر الأحيان أو على الأقل أن يصل كل منا إلى أهدافه التي لا تضر بالآخر. قال تعالى: " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" [1].

 وقال عز وجل: " وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ[2]". إذًا، الله سبحانه وتعالى يخبرنا –حسب فهمي القاصر- أنه أوجد الاختلاف بين الناس عن قصد وهو الحكيم الذي لا يصنع شيئا إلا لعلة ومقصد، كما يخبرنا أن هذا الاختلاف هو محفز للتسابق للخيرات والأفضل، عكس ما يراه الكثيرون من أنه مدعاة للتصارع والنزاع الذي يخلف سلبيات كثيرة لدى الأطراف المتصارعة.

 روح التنافس التي أمر الله بها بقوله: "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون"[3] وروح التسابق في الخيرات هي بالضبط ما نحتاجه للخروج من نفق التحزب المظلم إلى الواقع المتقدم والتفوق في أمور الدين والدنيا، فهذا هو "المفتاح السحري" الذي دلنا عليه ربنا، وسبقنا به غيرنا، فتقدموا وتخلفنا.

روح التنافس بعيدة كل البعد عن روح السيطرة المطلقة والنظرة الأحادية التي يتشبث بها المتحزبون ويعضون عليها بالنواجذ وربما نسبوها للدين ليبقوا هذه الحزبيات الجاهلية المتخلفة حية لأطول أمد ممكن.

3)     الخروج من بوتقة الفئة الضيقة والاحتكاك بالفئات الأخرى وملامسة واقعها عن قرب، ليس لتصيد الأخطاء وإنما للبحث عن الإيجابيات التي تتميز بها هذه الفئات عن غيرها "نقاط القوة" والاستفادة من ذلك، وللبحث عن المشتركات والتركيز عليها بدلا من التركيز على نقاط التناحر التي تؤخر دائمًا ولا تقدم.   

4)     تقدير إنجازات الآخرين بل تشجيعها ودعمها دون تردد. وهذا يرتبط أيضًا بروح التنافس المذكورة في القرآن، حيث أن من الطبيعي أن تكون في التنافس جولات يتفوق فيها طرف وجولات يتفوق فيها طرف آخر ولكن في الحالتين يقر الطرف الآخر بهذا الإنجاز ويحترمه ويشجع منافسه على أن تكون الجولة القادمة أشد منافسة ليبذل كل منهما قصارى جهده نحو أن يكون هو الأفضل وبذلك يكون الطرفان رابحان لما يصل إليه كلاهما من مراحل متقدمة عن السابق وإن تفوق أحدهما على الآخر في جولة ما.

 وباختصار، علينا أن نفهم أن التسابق والتنافس يوصل الجميع للأمام ولكن الذي يبذل أكثر يصل أولا، وليس التسابق أداة لإسقاط الآخرين والعمل على إباقائهم في الخلف لكيلا يشاركونا في مركزنا.

5)     الاعتراف بالخطأ عند وقوعه وإعطائه حجمه الذي يستحقه، فلا نهون أخطاءنا الكبيرة، ولا نضخم أخطاء غيرنا التي ربما تكون صغيرة وتافهة أحيانًا. وهذه خطوة ضرورية جدًا لإزالة حجاب التحزب عن العقل.  

6)     حمل تصرفات الأشخاص عليهم كأشخاص لا على الفئات التي ينتمون لها، أو بكلمة أخرى "عدم التعميم". كثيرًا ما تستغل تصرفات بعض الأشخاص لشن حملات التشويه والتسقيط لفئات كبيرة من الناس الذين لا ذنب لهم سوى أنهم ينتمون لنفس الفئة التي ينتمي لها الأشخاص الذين صدرت عنهم هذه التصرفات! وفي المقابل، كثيرًا ما نرى أشخاصًا يُظلمون وتصدر عليهم الأحكام المسبقة أو الأحكام المبنية على سوء الظن وحده، ويوصفون بما ليس من صفاتهم الشخصية، فقط لأنهم ينتمون لفئة ما يعمم البعض بعض الصفات على كل أفرادها بلا تمييز! ألا يخالف هذا المنطق الرباني القائل: " وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [4]"؟!

7)     التشاور في الأمور المهمة التي تعنى بالجميع، وتبني القضايا المصيرية بشكل موحد لحقيق المراد فيها، لا خروج كل فئة على برأيها المستقل حتى وإن كانت الآراء متقاربة، لأن ذلك سيضعف هذه الآراء كونها آراء وراءها عدة فئات مختلفة تأثيرها –مهما عظم- أقل من الجماعة الكبيرة، أو تجاهل القضايا التي تؤثر على الجميع حينما تكون فئة معينة هي التي في الواجهة "في الظاهر" اعتقادًا بأن ذلك ليس من شأن الآخرين وأن حدود هذه القضايا ستتوقف عند حدود هذه الفئة، ولكن هذا التصور غير صحيح أبدًا فالفئات تحسب على الجماعة الكبيرة التي تنتمي لها حتى وإن كانت الفئات الأخرى في هذه الجماعة مخالفة لها أشد الخلاف.

8)     الابتعاد عن التمييز ضد الفئات الأخرى ومضايقتها لئلا يقودها ذلك إلى التحزب والإنغلاق مستعدية الآخرين دفاعا عن نفسها نتيجة "الشعور بالاستهداف" الذي تنتج عنه غالبا تحركات عنيفة لحماية النفس.

9)     إظهار السخط والاستنكار العلني الواضح لمن يضرب على وتر الحزبيات ويحاول ترسيخها وتأجيج نيرانها.

 لا تستصغر هذا الأمر فهو مؤثر جداً حسب نظريات التواصل البشري، فنظرية "العقوبة والتعزيز" ونظرية "الضغط الاجتماعي" ونظرية "التأكيد" كلها تؤكد أن ردة الفعل على عمل أي شخص لها دور كبير في تحديد كيف سيتصرف هذا الشخص في المستقبل -خصوصًا في الأمور الاجتماعية-، فإن كانت ردة الفعل إيجابية فذلك يعزز فرصة تكرار هذا الفعل وربما بأكثر مما كان في السابق، والعكس بالعكس.

 فعلينا توضيح استيائنا واستنكارنا لهؤلاء الأشخاص وعدم الإكتفاء بالاستنكار القلبي ليكون ذلك مدعاة لهم لمراجعة حساباتهم من جديد.

10) التذكر الدائم بأننا جميعاً نواجه خطرًا مشتركاً لا يميز بين فئة وأخرى وإنما يريد الإجهاز على الجميع إن سنحت له الفرصة، وأن هذه التحزبات والصراعات الداخلية هي أكبر هدية يمكن أن نقدمها له في سبيل تحقيق هدفه وإضعاف قدراتنا على مواجهته ولو مواجهة بسيطة تكفل لنا أدنى حدود الكرامة، وما هذا إلا مصداقا لقوله تعالى: " وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ"[5].

·         #008a3e ; FONT-SIZE: 12pt; mso-ascii-font-family: Calibri; mso-hansi-font-family: Calibri" lang=AR-SA>بينات من الهدى في ذم التحزب والتنازع والحث على جمع الكلمة:

-          " فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ"[6].

-          " إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ "[7].

-          "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ"[8] وفي الآية إشارة لطيفة في عدم التحزب لأحد الطرفين، فكما أن أحد الطرفين أخ لكم، كذلك الطرف الآخر هو أخ لكم، وفي الآية التالية إشارة لطيفة لمعنى قريب من هذا المعنى أيضًا.

-          "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا"[9].

-          "وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً".[10] عبر سبحانه عن هود بأنه "أخ" لقومه رغم كفرهم، وكان يمكنه -جل وعلا- التعبير بكلمات أخرى ليبين أن هودًا من قوم عاد ولكنه اختار التعبير بهذا اللفظ لغاية وهدف وهو تلطيف الخطاب مع الكفار لتلين قلوبهم ويكون ذلك أقرب لقبولهم الحق واجتماعهم عليه بدل النزاع والتفرق عنه عداء لهود الذي جاء مخالفًا لهم، ويا له من درس قرآني عظيم، فهل نفهمه ونعمل به أم يبقى حبرًا على ورق نقرؤه ولا نفقه منه شيئًا؟  

 



[1]  سورة هود، الآية 118

[2]  سورة المائدة، الآية 48

[3]  سورة

[4]  سورة فاطر، الآية 18

[5]  سورة الأنفال، الآية 46

[6]  سورة المؤمنون الآية 53

[7]  سورة الأنبياء، الآية 92

[8]  سورة الحجرات، الآية 10

[9]  سورة النساء، الآية 85

[10]  سورة الأعراف، الآية 65