موسى يعود إلى مصر نبيا

 

 

 

 

 

﴿ فَلَمَّا جَاءَهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) القصص.

في هاتين الآيتين نحن أمام مشهد جديد في مصر بعد المشهد الذي أسدل عليه الستار وكان موقعه الوادي المقدس. ولم تذكر الآيات ما بين المشهدين من رحلة الإياب ولقاء موسى بأخيه هارون وإخباره إياه بالمهمة الجديدة، وتوجههما إلى فرعون وما جرى من أحداث حتى دخلا على فرعون. لم تذكر الآيات كل ذلك لأن العبرة هنا لا تتعلق بتلك الأحداث.

تختصر الآيتان هنا أيضا الكثير من الأحداث والحوارات التي حدثت بين موسى وهارون من جهة وفرعون وملئه من جهة أخرى والمذكورة في مواضع من سور أخرى. وذلك لأن الآيات هنا تركز فيما تركز - فيما يظهر - على أن فترة الصراع مع الباطل وإن بدت طويلة إلا أنها في واقعها قصيرة.

نحن إذن في مصر حيث جاء موسى بالآيات البينات المعجزات إلى فرعون وملئه، ولكن كما حدث ويحدث دائما مع المترفين المنتفعين من استمرار الوضع القائم والمتوجسين من أي تغيير، فإنهم لا يستطيعون مواجهة الحقائق بالحقائق والبراهين بالبراهين، فيلجئون إلى التشويش على الآخرين واستخفافهم وتضليلهم. وهذا ما فعلوه مع النبي موسى عليه السلام بلصق تهمة السحر المفترى المبتدع والمكذوب على الله بآيات الله البينات الواضحات لكل ذي عينين. هذه التهمة ليست جديدة على الأنبياء، بل هو سلوك يتوارثه الطغاة عبر التاريخ: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ .

ثم زادوا على إلصاق تهمة السحر بآيات الله أن جعلوا آباءهم السابقين معيارا للحق، فما دام لم يصلهم من آبائهم شيء عن مثل دعوة موسى، فإنها ليست بحق. وهذا اللجوء للماضي هو من أجل تكريس الواقع وإبقائه على ما هو عليه، ولاستنفار الآخرين وتجييشهم ضد الدعوة الجديدة، وتحريكهم للدفاع عن معتقدات الآباء وطريقتهم باعتبارها مقدسات لا يمكن المساس بها، وخطا أحمر لا يجوز تجاوزه. هكذا يفعل الطغاة دائما وأبدا.

واجه موسى عليه السلام تلك التهمة وذلك الادعاء الباطل بصبر جميل وأدب رفيع؛ كيف لا وهو من أولي العزم من الرسل. لم يستفزه خطابهم المقيت، ولم تُثنِه مراوغاتهم عن مواصلة دربه. فقال لهم مفوضا الأمر لله تعالى بعد استنفاد كافة الوسائل الممكنة: ﴿رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.

رد في غاية الروعة والمتانة، بين لهم أن ربه وهو ربهم ورب آبائهم الأولين ﴿أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ، فهو المعتمد والمعول في تحديد صدق الرسالة لا آباؤهم الذين لم يأتوا بهدى، وهو أعلم أيضا بتشخيص مصائر الناس ولمن تكون النهاية والعاقبة. كما وضعهم أمام سنة تاريخية لا تتبدل ﴿إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ مؤكدا بذلك ثقته بنفسه وتأييد الله له، وفي هذا – كما يقول صاحب الميزان - تعريض لفرعون وقومه وفيه نفي أن تكون لهم عاقبة الدار فإنهم بنوا سنة الحياة على الظلم وفيه انحراف عن العدالة الاجتماعية التي تهدي إليها فطرة الإنسان الموافقة للنظام الكوني .

وقفات:

1- على صاحب الدعوة والرسالة أن يذهب إلى الآخرين لتبيين رسالته لهم، لا أن ينتظرهم ليأتوه، هذا ما نستفيده من كلمة ﴿فَلَمَّا جَاءَهُم. يقول أمير المؤمنين واصفاً النبي : (طبيب دوار بطبه، قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه.يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي، وآذان صم، وألسنة بكم. متتبع بدوائه مواضع الغفلة، ومواطن الحيرة) .

2- الرسالة يجب أن تكون واضحة وذات قدرة بيانية عالية ومفحمة.

3- ينبغي أن يتوقع الممارسون للدعوة كيل الاتهامات لهم من الطغاة وأزلامهم، وأن يعدوا أنفسهم لمثل تلك المواقف الظالمة.

4- ضعيف الحجة يلجأ إلى التشويش على قوي الحجة بالتهريج والحملات المغرضة بهدف إبعاد الناس عن الحق خوفا على مصالحه من الضرر.

5- الناس كثيرا ما يكونون محكومين بموروثاتهم، وهي التي تتحكم بمصائرهم، فكأن الأجداد من قبورهم يوجهون سلوك الأحفاد.

6- تقديس الماضي لكونه ماضيا من أهم العقبات التي تعترض طريق التغيير، فالتقديس يجب أن يكون للحق أولا ولرجال الحق ثانيا. يقول الإمام علي عليه السلام: لا يُعرف الحق بالرجال؛ اعرف الحق تعرف أهله .

7- عاقبة الدار فسرتها سورة الرعد في قوله تعالى:﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23)

8- الأمور بعواقبها، والعاقبة للمتقين دائما وأبدا.

9- نهاية الظلم والظالمين وخيمة، ولا يفلحون أبدا.

10- وجود ضمير الشأن في قوله ﴿إِنَّهُ دليل على أن ما بعده، أي قوله ﴿لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ذات خطر عظيم وشأن كبير. فلم تقل الآية (إن الظالمين لا يفلحون)، بل قدمت عدم الفلاح مسبوقا بالتوكيد وضمير الشأن، وفي هذا تخويف للظالمين.

11- حوارات الأنبياء تكشف عن المستوى الخلقي الرفيع الذي يتمتعون به، وهو ما نحتاج إليه في حواراتنا. فهذا النبي موسى لم يقل لهم بشكل مباشر بأن عاقبة الدار لي وأني لست ظالما، بل قال: ﴿رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.

وهكذا قال نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقومه: ﴿قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ

شاعر وأديب