الشيخ الخميس يبحث مسالك الفقهاء عند تعارض أدلة الروايات

شبكة أم الحمام محرر همم للثقافة والإعلام

 

 في محطتها الجديدة في بلدة أم الحمام، عقدت همم للثقافة والإعلام لقاءها الحواري الثالث بعنوان (تعارض الأدلة) وذلك مساء الثلاثاء ١٩/ ١٠/ ١٤٣٤هـ في حسينية أهل البيت -عليهم السلام- (العوامي) حيث كان ضيفها في ذلك اللقاء الشيخ حسين بن سعيد الخميس -حفظه الله-.
 
وقد افتتح اللقاء الأستاذ حسين علي قيصوم بتعريف مختصر بالجهة المنظمة للقاء وأنشطتها سبقته تلاوة لآيات من الذكر الحكيم بمشاركة المقرئ الأستاذ مؤيد عبد الله الحميدي ( الحاصل على المركز الأول في دبلوم علوم القرآن الكريم بأم الحمام، والحاصل على المركز الأول في مسابقة الحفظ على مستوى المنطقة الشرقية لعام 1434 ه-.).
 
بعدها بدأ سماحة الشيخ حسين الخميس حوارًا تفاعليًا شيِّقًا مع الجمهور في إطار موضوع اللقاء المتعلق بالتعارض الوارد في الروايات وأحكامها وبعض من طرق الفقهاء في التعامل مع مثل تلك الروايات التي يكون الأخذ بها أو ردها من اختصاصهم.
 
وبدأ سماحة الشيخ الخميس مقدمة الحوار بتعريف التعارض الذي عرَّفه مشهور الفقهاء بأنه تنافي مدلول الدليلين في عالم الجعل والثبوت (عالم الإنشاء) حيث لا يمكن الجمع بين مفادهما.

وهذا التعارض إما يكون تعارضًا بالذات وإما يكون تعارضًا بالعَرَض. أما بخصوص الفرق بينه وبين التزاحم، فهو حين لا يمكن للمكلف أن يصرف الجهد في الامتثال للدليلين في عالم الإثبات، كأداء الصلاة وإنقاذ الغريق في الوقت ذاته. ومن هنا يتضح الفرق ما بين بابي التعارض والتزاحم.
 
وقال الشيخ الخميس إن العقلاء يقطعون بتقديم الأهم على المهم، وما جاء في الروايات ما هو إلا إرشاد إلى ما تفاهم عليه العقلاء، فهي قضية إمضائية كتقديم إنقاذ الغريق على القيام بالصلاة، وليست قضية إنشائية كتأسيس الشارع المقدس لتقديم إزالة النجاسة من المسجد على أداء الصلاة في أول وقتها. فإذا أحرزنا الأهمية، فيلزم تقديم الأهم على المهم.
 
وأضاف سماحته: هذا إذا أحرز المكلف الأهمية، ولكن إذا احتمل الأهمية بين أمرين، فهل يقدم أحدهما على الآخر؟
مثلا: لو توفرت جميع شرائط الاستطاعة على الحج لشخص – وهي: أن يكون مالكًا للزاد والراحلة، وأن يكون صحيح البدن، وتخلية السرب (كون الطريق سالكًا)، والرجوع إلى الكفاية له ولعائلته اعتمادًا على أدلة رفع الحرج، وأن يكون في الوقت سعة لأداء المناسك-، فإذا نذر أن يكون يوم عرفة من كل عام زائرًا لأبي عبد الله الحسين ، فهنا ليس لديه القدرة على أن يكون يوم عرفة في مكانين، فإذا أحرز الأهمية وجب تقديم الأهم على المهم، وإذا لم يحرز ولم يحتمل فهو مخير بين الأمرين، ولكن إذا لم يحرز فهل مجرد الاحتمال العقلائي يكون منجزًا للتكليف بالنسبة له؟
 
إن هذا الاحتمال مسرح لكلا البراءتين (الشرعية والعقلية)، فهو ليس كافٍ لتنجيز التكليف، فالبراءة الشرعية: "رفع عن أمتي ما لا يعلمون"، والعقلية: قبح العقاب بلا بيان.
 
هذا من جهة، ومن جهة أخرى: هل هناك بناء عقلائي أم لا؟
 
وأكمل سماحة الشيخ حسين الخميس –حفظه الله-: إن البناء العقلائي من الأدلة اللُّبية التي ليس لها لسان إطلاق، وحينئذ يُقتصر فيه على القدر المتيقن، والقدر المتيقن عبارة عن معلوم الأهمية، ومحتمل الأهمية يكون مسرحًا لجريان كلا البراءتين. فيكون المكلف في هذا المثال مخيرًا بين الزيارة أو الحج.
 
هنا نريد أن نتساءل: هل أن ذلك هو صغرى لكبرى باب التعارض أو باب التزاحم أو هو أجنبي عن ما نحن فيه؟
لا شبهة ولا شك أن هذه المسألة ليست داخلة في باب التعارض حيث لا يوجد تعارض بينهما في عالم الإنشاء ويمكن الأمر بالصلاة وإنقاذ الغريق أو الأمر بالزيارة والحج فالأمر بأحدهما في نفسه لا ينافي الأمر بالآخر.

ورب قائل يقول أن ذلك من باب صغرى لكبرى باب التزاحم، وحينئذ نطبق القاعدة الواردة في باب التزاحم.
والحق أن المسألة أجنبية عن باب التعارض وعن باب التزاحم أيضًا كما ذهب إليه جمهرة الفقهاء، والوجه في ذلك أن من شرائط صحة النذر أن يكون المنذور راجحًا، والرجحان ينحل إلى حصتين: حصة الإنشاء وحصة الامتثال، ولا شك أن حصة الإنشاء راجحة في هذا المثال إلا أن حصة الامتثال مرجوحة إذ أنها تكون مانعة من امتثال الحج الواجب، وحينئذ لا يكون للنذر انعقاد، وبناء على ذلك لا تكون هذه المسألة صغرى لكبرى باب التزاحم.
 
وفي جانب آخر، تساءل سماحته: إذا وجدنا رواية مفادها طهارة أهل الكتاب وأخرى مفادها نجاسة أهل الكتاب، فهل يمكن الجمع بينهما؟
الجواب: لا يمكن ذلك، لأنه يقود إما إلى التضاد أو التناقض والتعارض بالذات، وهذا لا يصدر عن عموم العقلاء، فكيف تتعقل صدوره عن الشارع المقدس وهو سيد العقلاء؟!
 
أما التعارض بالعَرَض، فنمثل له بأنه إذا عثرنا على رواية بوجوب صلاة الجمعة يوم الجمعة ورواية أخرى بوجوب صلاة الظهر يوم الجمعة، فهنا نقول بأنه الموضوع مختلف ومن شرائط التعارض وحدة الموضوع، أما هنا فموضوعان: الأول صلاة الجمعة يوم الجمعة، والآخر صلاة الظهر يوم الجمعة، فلا يوجد تضاد ولا تناقض ولا يوجد تعارض بالذات، ولكن يوجد تعارض بالعَرَض - فيمكن للشارع أن يأمر المكلف في عالم الجعل والإنشاء بلزوم المجيء بالظهر والجمعة يوم الجمعة إنما التعارض يكون بالعَرَض- حيث أن من البديهيات الضرورية عند جميع المسلمين أن المسلم مكلف بخمس صلوات - بالذات لا العَرَض كصلاة الآيات وما شابه- ويضاف إليه الإجماع، فإذا كلف بصلاة الجمعة وبصلاة الظهر يوم الجمعة فتكون ست صلوات، وهذا يخالف ضرورة (بديهية) من ضروريات الدين.
 
إذا وقع تعارض بين مفاد دليلين وما أمكن الجمع بينهما، فالحكم العقلي والعقلائي أنهما يتساقطان ثم نرجع إلى العموم الفوقاني إن وجد.
فمثلاً: إذا بلغك خبر ثقة أن هذه الرطوبة نجسة، وبلغك خبر ثقة أن هذه الرطوبة طاهرة، فهنا يتساقط الخبران ونرجع للعموم الفوقاني: "كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه نجس"، وهنا الشرع لم يتصرف في الارتكاز العقلي.

وفي مثال آخر أضاف سماحته: إذا علمتم بأنه صدر منكم وضوء، وعلمتم أيضًا أنه صدر منكم حدث، ولكن لا تعلمون أيهما المتقدم من المتأخر، فهنا يقع تعارض ما بين مفاد مجرى الاستصحابين: مفاد جريان الاستصحاب الأول (الطهارة) ومفاد الاستصحاب الثاني (الحدث)، بهذا البيان:

استصحاب الطهارة: لوجود يقين سابق بالوضوء وشك طارئ بالحدث فتصبح نتيجة استصحابك الأول: الطهارة. وفي مقابل استصحاب الطهارة، لدينا استصحاب آخر بالحدث: يقين سابق بالحدث وشك طارئ بالوضوء فالمستفاد من أدلة الاستصحاب: لا تنقض يقينك السابق بشكك اللاحق فتصبح النتيجة: البقاء على الحدث، وحينئذ يقع التناقض ما بين مفاد الاستصحابين، فهنا يتساقطان ونرجع للعموم الفوقاني في الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ، وفي حديث: "لا صلاة إلا بطهور".
 
هذا حكم العقل والعقلاء، لكن ما يقوله الشارع المقدس هو غير ذلك، حيث يقر بهذا الحكم العقلائي لكن ليس في تعارض الروايات، وأضعف دليل شرعي يرفع أقوى دليل عقلي حيث أن الشارع سيد العقلاء فيتصرف في السيرة والحكم العقلي إما بالتضييق أو بالتوسعة وفي ما نحن فيه صغرى لكبرى التصرف على نحو التضييق.
 
و حين يقع التعارض ما بين الأدلة، ففي المقام مسالك ثلاثة:
 
المسلك الأول: الترجيح بواحد من المرجحات والمزيات المنصوصة:
أ) المرجح الأول: موافقة الرواية لعموم الكتاب، ولكن هذا فوائده قليلة حيث ينص على "عموم" الكتاب بينما الروايات غالبا تكون "تفصيلات" لهذه العمومات.
 
ب) المرجح الثاني: موافقة الرواية للشهرة كما ورد في الرواية عن الإمام الصادق : "خذ ما اشتهر بين أصحابك، و دع الشاذ النادر، فإن المجمع عليه لا ريب فيه".
 
ج) المرجح الثالث: مخالفة الرواية للعامة: ويمكن التمسك في ذلك بمقبولة عمر بن حنظلة: "خذ بما خالف العامة"، ثم علل الإمام : "فإن الرشد في خلافهم"، ولابد من الالتفات إلى أن خلافهم في الغالب يكون موافقًا للواقع لا دائمًا، والوجه في ذلك وجود أحكام مشتركة بيننا وبينهم.
 
لماذا الرواية المخالفة لهم تكون موافقة للواقع؟

هنا عدة نكات:

- أن الروايات الموافقة لهم يحتمل أن تكون صادرة تقية لا لبيان الحكم الواقعي - لأن الرواية الصادرة لبيان الحكم الواقعي لابد من تطابق الإرادتين: الاستعمالية والجدية- ، وبالتالي لا يسعها أن تكون معارضة للرواية الصادرة لبيان الحكم الواقعي.

- أن الأسس التي يعتمد عليها العامة في استنباط الأحكام كالرأي والاستحسان والقياس وسد الذريعة باطلة عندنا، وبالتالي فإن الرواية المطابقة لأسسهم لا تكون صادرة لبيان الحكم الواقعي، وحينئذ يتضح تعليل الإمام في أن "الرشد في خلافهم".
 
المسلك الثاني: الترجيح بكل مزية توجب القرب للواقع الأعم من المزايا المنصوصة وغيرها. ويمكن التمسك في ذلك بالتعليل الوارد في الأخذ بالشهرة: "فإن المجمع عليه لا ريب فيه".

وبناء على الحصر العقلي أن الذي لا ريب فيه إما يكون لا ريب "حقيقي" وإما أن يكون "لا ريب" إضافي" بمعنى أن الرواية المشهورة تكون دائما مطابقة للواقع وإما أن تكون لا ريب فيها بالنسبة للرواية الشاذة النادرة بمعنى أن تكون هي غالبًا أقرب للواقع، ولا يمكن الالتزام بأنها دائما مطابقة للواقع، فلا مناص من الالتزام بأن " لا ريب" إضافي.
وبناء على ذلك نقول: أن الشهرة لا خصوصية لها، وإنما ذكرت من باب المصداق فقط، وكل مزية توجب القرب للواقع فهي من المرجحات.
 
ومثال على ذلك: إذا وردت روايتان متعارضتان إحداهما رواها أصحاب فقهاء أجلاء وأخرى رواها عموم الثقاة، فإننا نأخذ بالأولى لكونها أقرب للواقع وكون الأخرى أبعد عن الواقع.

وكذلك، لو وردت روايتان متعارضتان إحداهما وردت باللفظ كما قالها المعصوم -عليه السلام- والأخرى وردت بالمعنى -كما هو حال أغلب الروايات-، فإننا نأخذ بالأولى لكونها أقرب للواقع بالنسبة للأخرى الأبعد عن الواقع.

وأيضا، لو وردت رواية تكون فيها الوسائط للمعصوم -عليه السلام- قليلة وأخرى تعارضها تكون فيها الوسائط كثيرة، فإننا نأخذ بالأولى لكونها أقرب للواقع وكون الأخرى أبعد عن الواقع ولاحتمالية الغفلة والسهو والاشتباه.
 
ويرد على هذا المسلك بأنه بناء على التوسعة في إعمال المرجحات الأعم من المرجحات المنصوصة وغيرها من كل مزية توجب القرب للواقع، فإنه لا يبقى لعموم أدلة التخيير إلا الفرد النادر، وهو قبيح مستهجن عند العقلاء أن تحصر التخيير في النادر، فكيف يصدر ذلك من الشارع المقدس؟!
 
وتوضيح ذلك بأنه إذا كان لدينا طائفتان من الروايات ووقع تعارض الأدلة، وكان مفاد الأول الترجيح ومفاد الثاني التخيير الأعم من وجود مرجح أم لا – حيث أنه حكم بمطلق التخيير من دون أن يستفسر من السائل هل هناك مرجح أم لا، فإذا تمسكنا بالإطلاق والإمام في مقام البيان- ، فإن المكلَّف مخير بالأخذ بأحد الروايتين في الأعم لوجود مرجح أم لا.

ومن أجل رفع التنافي ما بين مفاد الطائفتين فإننا نقول أنه إذا وجد أحد المرجحات المنصوصة من قبيل موافقة الرواية لعموم الكتاب أو موافقتها للشهرة أو مخالفتها للعامة، فإنها تكون راجحة والتي في مقابلها تكون مرجوحة، ومع فقدان المرجح تصل النوبة إلى التخيير، وحينئذ لا يرد محذور بقاء فرد نادر تحت عموم أدلة التخيير، لكن إذا عملنا بالمرجحات وبكل مزية توجب القرب للواقع مع المرجحات المنصوصة، فإنه لا يبقى تحت عموم أدلة التخيير إلا فردًا نادرًا وهو قبيح.

ومن باب التنزل، لو قلنا بأن الباقي ليس فردًا نادرًا وإنما أكثر من ذلك، فإننا نقول أن الخارج من تحت عموم أدلة التخيير هو الأكثر والباقي هو الأقل، وهذا يتنافى مع دليلية الدليل وقانونية القانون، إذ أن دليلية الدليل وقانونية القانون أن يكون الباقي تحت عموم الدليل والقانون هو الأكثر والخارج هو الأقل لا العكس.
 
لذلك فإن المشهور بين فقهائنا أنهم يقولون بأنه لا بد أن نقتصر في الترجيح على واحد من المرجحات المنصوصة ولا نتعدى لكل مزية تدل على القرب للواقع.
 
المسلك الثالث: التخيير في الأعم من وجود مرجحات أم مع عدم وجود المرجح في مورد تعارض الروايتين: "... يرد عنكم الخبران المختلفان أحدهما يأمر والآخر ينهى، فبأيهما أعمل؟ فقال - عليه السلام-: موسع عليك بأيهما أخذت -وفي رواية أخرى: عملت- ".
 
وهناك بحث آخر أيضًا في قوله: "موسع عليك"، هل أن هذه السعة ابتدائية بمعنى أنه بمجرد أن تعمل بمضمون أحد الخبرين فإنه يصبح حجة عليك ولا يجوز رفع اليد عنه والأخذ بالآخر أم استمرارية بمعنى أنه يمكن العمل بأحدهما وبعد مدة يمكن رفع اليد عنه والأخذ بالآخر؟
 

في المقام مسلكان:

أولاً: المسلك الأول: أن السعة سعة ابتدائية: ويمكن الاستدلال لذلك بأن مورد الرواية مورد الحيرة، والحيرة ترتفع بمجرد العمل بإحدى الروايتين، فلا تبقى هنالك حيرة.
المسلك الثاني: أن السعة سعة استمرارية: ويمكن الاستدلال على ذلك -أولا- بالإطلاق الوارد في الرواية: "موسع عليك بأيهما أخذت".
ثانيًا: التمسك بموضوع الرواية وليس بموردها، فموضوع الرواية هو : الخبران المختلفان، فقبل الأخذ بمضمون أحد الخبرين هما مختلفان، وبعد الأخذ بمضمون أحدهما فهما مختلفان أيضًا، والأحكام تدور مدار الأسماء والموضوعات لا الموارد، وبناء عليه تكون السعة سعة استمرارية.
 
واختتم فضيلة الشيخ حسين بن سعيد الخميس اللقاء العلمي المميز، بقوله: كان هذا من باب الثقافة الفقهية فقط، أما الفتاوى فيرجع فيها للمراجع والفقهاء.