أكراد تركيا والمواطنة المنقوصة

 

يمثل الأكراد في تركيا 20% من مجموع السكان، ولكنهم يعانون من متلازمة نقص المواطنة المكتسبة، إذ لا يتمتعون بكامل الحقوق المدنية والسياسية باعتبارهم مواطنين. فبعد قيام الجمهورية في تركيا عام 1924 رأى الكماليون، في خطوة قومية عنصرية، أنه لا مكان لشعب غير الشعب التركي، ويجب تتريك كل القوميات الأخرى، التي تضمها هذه الجمهورية، وصهرها في المجتمع التركي.

ورفضوا الاعتراف بوجود شعب آخر غير الأتراك، وأطلقوا على الأكراد اسم " أتراك الجبال" ، وألغوا اللغة الكردية في المدارس والمعاهد، وحرّموا التحدث بها في الشوارع والمجالس، فضلاً عن تحريمها في المصالح الحكومية وأمام المحاكم، على الرغم من تعهداتهم السابقة بحماية الهويات الأخرى في معاهدة لوزان عام 1923.

وعلى إثر ذلك اندلعت عدة انتفاضات مسلحة احتجاجا على التتريك القهري والمحاولات القسرية لطمس الهوية الكردية.

وردّت الحكومة على الانتفاضات بكل عنف وشراسة، وقامت بتشتيت وتهجير آلاف الأسر الكردية، ودمرت مئات القرى، مستخدمة القانون أحيانا  كغطاء لبعض تلك العمليات. فمثلا بعد إنهاء انتفاضة درسيم (1936-1937) صدر قانون في مايو 1937، رحِّل بموجبه مئات الألوف من الأكراد من مناطقهم إلى مناطق أخرى، لا يكوّنون فيها سوى 5% من السكان.

ظلت المشكلة لسنوات طويلة خارج النقاش، حيث لم تعترف الحكومات الكردية المتعاقبة بالمسألة الكردية، وبالتالي لم تُقدم على طرح أي حل سياسي لها.

وكانت تتعامل مع القضية من منظور أمني بحت، مما زاد في تعقيداتها، خصوصا وأنها مسألة شائكة ذات أبعاد إقليمية. كما لم تسمح الدساتير التركية، في أعوام 1924 و1961 و1981، للأقليات القومية في تركيا بتأسيس أحزاب سياسية، وكان ذلك سببا في لجوء بعضها للعمل السري أو تبني السلاح خيارا، كما فعل حزب العمال الكردستاني الذي بدأ نشاطاته في عام 1984 ضد المصالح التركية في الداخل والخارج، مطالبا بالانفصال عن تركيا، وتأسيس كردستان المستقلة في شرقي تركيا.

استمر الحال على ما هو عليه حتى عهد الرئيس التركي الأسبق تورغوت أوزال الذي حاول إحداث تغيير في سياسة بلاده في تعاطيها مع القضية الكردية. فأصدرت الحكومة عفوا عاما عن السجناء الأكراد، وفي ديسمبر 1990 رُفع الحظر عن استخدام اللغة الكردية، في الحديث والتخاطب فقط.

ثم أصدرت الحكومة التركية قراراً، في فبراير 1991، برفع الحظر عن اللغة الكردية، خاصة فيما يتعلق باستعمالها في الأماكن العامة، والتحدث بها واستخدامها في الوسائل السمعية والمرئية، وسمحت بإصدار المطبوعات والصحف بها. غير أنها ظلت محظورة في مجال التعليم والدراسة.

لم يقدر النجاح لخطوات أوزال تلك، بسبب الضغط والمعارضة الشديدة، الَّلَذين تعرض لهما من قِبل العسكريين، حماة الجمهورية الأتاتوركية، ومن الأحزاب والقوى اليمينية المتطرفة.

ونجحت هذه القوى نفسها أيضا بعد أوزال في إفشال ما قررت رئيسة الوزراء (تانسو تشيلر) تنفيذه من برامج للإصلاح السياسي والاقتصادي العاجل في المناطق الكردية. حيث اضطرت إلى التراجع تحت وطأة المعارضة، التي أظهرها القوميون المتشددون، والذين ترسخ في أذهانهم، أن المسألة الكردية لا تعدو أن تكون توجهاً عنصرياً، يستهدف زعزعة الوطن، وليست قضية مواطنين، لهم هوية ثقافية وعِرقية متميزة.

وهذا يكشف لنا طبيعة المقاومة الشرسة والممانعة التي يواجهها التغيير من قبل أولئك الذين يشعرون بخطره على مكتسباتهم ومصالحهم، حتى وإن لم يكن لذلك الشعور أي مؤيدات واقعية خارج أذهانهم وتصوراتهم.

ولنفس السبب أيضا لم تنجح حتى الآن حكومة حزب العدالة والتنمية الحالية (2013) في مشروعها السياسي لتسوية المسألة الكردية، ولم تتمكن من الوفاء بالتزاماتها في الاتفاق الذي وقعته مع حزب العمال الكردستاني، والتي تتضمن تقديم رزمة من التعديلات الدستورية التي تمنح الأكراد ما يطالبون به من اعتراف بالهوية والتعليم باللغة الكردية وإطلاق سراح عبد الله أوجلان وآلاف المعتقلين. فلا يزال حزب العدالة والتنمية غير قادر على تقديم تنازلات نوعية خوفا على خسارته أصوات القوميين الأتراك في الانتخابات البلدية والرئاسية القادمة في 2014

لقد خلف الصراع المسلح بين حزب العمال الكردستاني وتركيا أكثر من 40 ألف قتيل على مدى 30 عاما تقريبا، ثم لما اقتنع الطرفان بعدم جدوى الحل العسكري أو الأمني، كان للحسابات الأخرى دورها في عرقلة وتعطيل نجاح الحل السياسي.

في تجربة أكراد تركيا الكثير من الدروس التي يمكن أن تختصر مسافات زمنية طويلة لمن يتأملها بعمق، لعل أهمها أن الهويات لا تموت، وأن القمع لا يثمر حلا، وإن استطاع إخماد المشكلة لفترة ما.

شاعر وأديب