شجرة التوت

كانت أم فارس تعد السمك المقلي مع الأرز الأبيض ، وبينما الماء يرتفع بالغليان ، إذ بقطرات باردة تسقط على جبينها بالرغم من البخار المنتشر المتتاطير و حرارة الجو. أثار هذا استغرابها فرفعت عينيها للأعلى فوجدت السقف المتهالك الممزوج بخطوط متعرجة ، أحضرت دلوا أحمر فكانت قطرات الماء تزداد بقوة كهطول المطر الغزير ، فسرعان أن امتلئ ، رفعته بيدها النحيلة المتعبة ثم سكبته بالقرب من شجرة التوت التي يحبها الجميع و يفتخرون بها و خاصة فارس مع أقرانه و زملائه في المدرسة ، ثم أعادت الدلو حيث كان . انتهت من طبخ الغذاء ، رتبت السفرة على الأرض ، اجتمعت العائلة حولها ما أن هم أبو فارس بتناول الطعام حتى انهالت عليه زوجته بطلبها بإصلاح سقف المطبخ بأسرع وقت ممكن ، مد يده نحو صحن الجرجير الأخضر و أومأ رأسه موافقا ، اغتاظت و غضبت لسلوكه و صمته ، ساورها الشك بعدم اهتمامه بالأمر ، في الحقيقة كان مكترثا وهمه ذلك ، لكنه أراد أن ينتهي سريعا من وجبته ليخرج لقوت يومه ، (طق طق طق) دقات هادئة على الباب الأسود الحديدي ، قام فارس مسرعا ، ما أن فتح الباب حتى ارتسمت على وجهه ابتسامة امتلأت بالسعادة ، ارتفع صوته مناديا أباه : (بابا … بابا ) بتثاقل مشى أبو فارس و ما أن لمح الرجل الواقف حتى ابتسم ابتسامة عريضة فاقت ابتسامة ابنه ، رحب به وصافحه بحرارة ،الرجل أخرج ظرفا أزرق من جيبه و قدمه إلى أبي فارس ، وقال له : نصيبك من الجمعية الخيرية ، انتظرنا في الموعد القادم أذا شاء الله سيكون المبلغ أكثر من هذا الذي بين يديك .. يعتمد ذلك على مجموع الصدقات . شكر أبو فارس الرجل جزيل الشكر ، ثم ودعهم الرجل .

 رفع الظرف عاليا قائلأ بلغة الجندي المنتصر : ألفان و مائتا ريالاً، ابتهجت قلوبهم تساقطت عليه الطلبات من كل جانب
الزوجة كررت مطلبها ، سعاد سألت والدها أن يشتري لها أدوات مدرسية جديدة ، فارس طلب منه حذاء رياضي ، طمئنهم بتحقيق ما يرغبون عند عودته إلى المنزل ، وضع الظرف في جيبه ثم أعاد عربته الخشبية و رتب الصناديق المملوءة بالتوت الأحمر في مصفوفات مرتبة جرّها للخارج ونظر لشجرة التوت أخذ يحدّث نفسه (سبحان الله في هذا الموسم يظهر التوت و أستفيد من هذه الشجرة فشكرا لله ثم لهذه الشجرة ) مشى في الطريق يفكر في عياله و أمر سقف المطبخ .. دارت الأفكار في رأسه و تساءل ترى كم سيكلفني إصلاح السقف ؟؟ تنهد بعمق ثم توقف بالقرب من أرض خالية ، السيارات آتية و ذاهبة .. الجو يزداد برودة ، توقفت بالقرب منه سيارة صغيرة، تهلل وجهه نزل الرجل منها .. و دار حول عجلة سيارته الخلفية يتفحصها ثم ولى ومشى سريعا حتى تطايرت حبات الرمل حول المكان ، دخل اليأس قلب أبا فارس لكن سرعان ما زال هذا الشعور ما أن اقتربت منه امرأة عجوز تسأله عن سعر الصندوق قال لها : بعشرة ريال فقط .. اشترته منه و مشت بخطوات كالعرجاء،

، الغيوم الرمادية غطت زرقة السماء و حجبت ضوء الشمس حتى أصبح الوقت كالمغرب ، نزلت قطرات مطر خفيفة ، مسك أبو فارس بعربته و أخذ يمشى سريعا نحو دكان أبو منصور في الشارع المقابل له هربا من المطر ، وصل للدكان رحب به أبو منصور و تذوق بضع حبات من التوت .

 أدخلا الصناديق للداخل وتحدثا سوية أبو منصور يسأل أبا فارس عن أحواله بعد أن فقد وظيفته ، قال أبو فارس و الألم يعتصر قلبه : حمد الله على كل حال … ثم أخرج مبلغا من المال ليدفع جزءاً من المبلغ الذي تراكم عليه من عدم دفعه لمشترياته .. في المقابل استلمها أبو منصور قائلا له حالي مثل حالك قوت يومي من هذا الدكان الصغير الذي لا يكفي أن أسدّ به متطلبات الحياة و أمور عيالي .. الكثير يذهب لتبضع من المركز الكبير الذي يقع في نهاية الشارع .. بينما هم يتحدثون إذ برجلين شابين ملثمين أغلقا الباب و بنظرات الذئاب رمقاهما قال أحدهما : أيها العجوز أعطنا ما تملكه من نقود و إلا أشعلت الدكان بما فيه، الآخر أخرج القداحة من جيبه و أشعلها و أخذ يدور في المكان و يسلب

ما يشاء .. استسلم أبو منصور ، فتح الخزنة و أعطاهما كل النقود ..الملثم الجشع لم يكفه ما في الخزنة بل قام بتفتيش جيوب أبا منصور أيضا ، و نهب ما وجد من ريالات ثم مسك بأبي فارس و رفعه من قميصه بقوة الأسد عندما يصطاد فريسته وقعت يده على الظرف الأزرق ، صاح أبو فارس أرجوك أنا فقير و هذا المال ليس ملكي ، أراد أن يواجهه فغضب الملثم و رمى بصناديق التوت على الأرض ، ثم دلف مع صديقه و ركبا الدراجة النارية وفرا بسرعة البرق ، شكي أبو منصور لله و تحسب عليهما ، أما أبو فارس تذكر وعوده لزوجته و عياله ..كاد يبكي كالأطفال لكنه استدرك وتمالك نفسه ثم خرج من الدكان و المطر لم يتوقف بعد أراد أن يبكي كعدد قطرات المطر ، إذ نيران القهر في قلبه لم تطفئها غزارة المطر ، بحرقة قلبه دعا الله أن يعوض عليه بالخير … لم يقوى على المشي توقف عند الأرض الخالية التي كان يبتاع عندها ..

 توقفت سيارة بالقرب منه نزل منه رجلا ظنه بحاجة لمساعدة في هذا الجو الممطر ، سأله إن كان يحتاج أن يوصله مكان ما ؟ أبو فارس شكره على معروفه ، لكن الرجل رأى حالته السيئة و استشعر بالألم الذي بداخله لذا أصر أن يوصله لمنزله ، رضخ أبو فارس لطلب الرجل .. وخاصة أنه أظهر له نيته الحسنة ، ارتاح أبو فارس للرجل فحدّثه عمّا حصل له ، على الفور قال الرجل وبلهجة جادة : لا تقلق أنا تاجر و ينقصني العُمال ..

 فأن كنت لا تمانع يمكنك العمل لدي ، أبو فارس بتحسر : لكني لا أعرف الكتابة و القراءة و لكني أجيد الحساب ،( هذا هو المطلوب) بحماس قالها الرجل ثم بتعقيب منه أنا أملك مزرعة و أتاجر بالفاكهة و الخضار .. حينها استبشر أبو فارس .. و بدأت مشاعر التفاؤل تقترب منه لتطفئ نيران قلبه .. توقف المطر ، غادرت الغيوم فانتشرت أشعة الشمس ،أنتقل الحال سريعا من الظلمة إلى النور ، كما تغير حال أبا فارس ، لم تكن هناك عبارات تتردد في نفس أبي فارس إلا بالشكر و الحمد لله سبحانه وتعالى الذي يرزق من يشاء بغير حساب.