الأب في نظر الشعـوب


كل داب في الأرض لديه أب باستـثـناء آدم وحواء عليهما السلام،  فهناك أب الدم وأب الروح، وهما متشابهان في التسمية ومختلفان في المعنى، فلأب الدم الفضل في الامتداد الوجودي والخلقي ، أما أب الروح فله فضل الإمتداد الروحي والفكري، ولكن من هو الأهم ؟ فلو خيرنا بزيادة عدد أحدهما في مجتمع ما . على من سيقع الأختيار ؟ 

سئل الأسكندر الأكبر يوماً، وهو في طريق سفره عن فضل أبيه وفضل معلمه عليه، فأجاب : "  أبي خـَلـَقَ مني كومة لحم، أما معلمي فخلق مني إنــســـان  ". نفهم من قصد الأسكندر إن آبائنا عندما أوجدونا كانوا في حالة نشوة ولذة فقط، ولم يفكروا حينها ولم يدركوا ما ذا سيبذرون في أرحام أمهاتنا، ذكر، أنثى، طفل مشوه، لا إنجاب مثلاً،  أي دون قصد، أما معلمونا عندما يلقون علينا العلوم والمعارف، فيقصدون خلق إنسان منا بمعنى الكلمة،  إنسان يحمل كل صفات ومعاني مكارم الأخلاق أولاً ، والقراءة والكتابة ثانياً، كما هدف إلي ذلك كل معلمي السماء، أي كل الأنبياء والحكماء والصالحين وعلى رأسهم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وصحبه الكرام، فقد أوجد فيهم الباري ( الكمال الـُخـلقي ) و( الكمال التعليمي )، كي ُتنقل إلي باقي البشر بأمانة وإتقان، وإن كان العكس عدم أهلية هؤلاء بالعصمة الكمالية وهم معلمين، لتصادم مع العـقل والمنطق،  فـفاقد الشئ لا يعطيه.

كثير من الشعوب والملل تبنت أباً روحيا، فهو الذي يتولى قيادة أمته نحو النجاح وبر الأمان حسب إيمان واعتقاد أمته،  وهو المؤثر والموجه بالقضايا الدينية والأجتماعية. حتى في عالم الحيوان، تجد هناك قيادة لأب روحي كملك أو ملكة، كما في مملكة الأسود والقرود والنمل والنحل، وكل الحيوانات الاجتماعية.

 قال عمر الخيام "  أبي لم يأخذ رأيّي عندما أوجدني " هل كل أب لحمي ( أب الدم ) يستطيع أن يمثل دور الأب الروحي؟

قلة من الآباء أجادوا دمج الأبوة اللحمية بالأبوة الروحية، وأقل من ممن سبق ذكرهم أجادوا التحول من أبوة اللحم إلى أبوة الفكر خلال مسيرة حياتهم الأسرية، فنحن لا ننكر دور الآباء المهم في تأمين العيش والحماية لأبنائهم، فحميم أشعة الشمس ومشاق الحياة وعراقيلها تأكل رؤوسهم ولحومهم من أجل رسم البسمة على شفاه أبنائهم، ففي آخر النهار يصلون منهكين إلى بيوتهم يريدون لفـظ ونسيان التعب والمشقة خارج البيت منشدين السعادة والرفاهية مع شركاء الحياة.

يلقي كثير من الأباء دور الأبوة الفكرية والروحية خلف ظهورهم، ويتركونه لخارج المنزل، سواء المدرسة ( المعلم الخاص في العصور السابقة ) أو تعليم الشارع والأصدقاء ! وفي النهاية سيحصد الآباء ما زرعته أيدي المعلمين والأصحاب من غرس في نفوس أبنائهم ، من غير دور للآباء في تحديد هوية ونوعية معلمي أبنائهم .

البعض منا حرم من الأب اللحمي في صغره، وتـلـقائياً ُحرم من حنانه ، ويعتبر وجود أباه بركة في المنزل ، حتى لو كان صامتاً قابعاً في غرفة ظلماء، والبعض ُحرم من حنان أبيه مع وجوده في حياته، وإن عدمه كوجوده ! ، متمنياً لو يلغى دور أبيه من دائرة أسرته، والبعض يرى إن والده عرقلة في حياته ، وإنه السبب في فشله في هذه الدنيا ، والبعض الآخر يعتبر أن وجود أباه فقط لوجوده اللحمي، ويتمنى لو لم يخلق أباه ولم يوجد هو بهذا العناء .

أما المحظوظون، وهم في مكان غبطة الجميع، فقد رزقوا بآباء نخبة وقدوة، تراهم يقلدون الأنبياء حتى في كلامهم، يراعون أبنائهم من هفوة اللسان وغبار الأيام، يقفون كي لا تقع الشمس على رؤوس أبنائهم، يكرمونهم حناناً قبل الإشباع ، وتربية قبل معلميهم، يتركونهم أرض خصبة لتلقي علوم الأخلاق والمعرفة، ولغرس يانع يسهل على المعلم العناية به وتشذيبه.

في كيلتا الحالتين السابقتين، يهم ويهتم الشارع المقدس بأولويات إحترام الأب مهما كانت سلبياته وأخطاؤه، ويعتبر عقوق الأب من الكبائر، وأهم شي يقف عنده، عدم إطاعتهم في معصية الله، قال تعالى : وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8) سورة العنكبوت، ويروي الألوسي في المعاني، وكما روي بالأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه الأخيار : ياعلي أنا وأنت أبوا هذه الأمة، أي مرشديها الروحانيين، ومربيا الأخلاق ومعلميها، وكذلك فعل الصحابة الأخيار .

عند العرب، يرث الإبن الأكبر حاجيات أبيه الخاصة بعد رحيله ، كالخاتم والحصان والخنجر والمصحف وكرسيه و عصاه التي يتكأ عليها ،  ولو تأملنا كيف يحترم الأب عند بعض الملل و الشعوب ، لوقفنا وقفة إجلال وتعظيم لتلك الشعوب ، ولأمرنا أبنائها بتقليدهم بعاداتهم وتقاليدهم .

ففي البلدان العربية كسورياً، ُيقبل كل أبناء الأسرة يد الأب أول النهار وآخر النهار، قبل الخروج والدخول، وعند أهل نجران، لا يجوز النظر والتحليق في عيني الأب، ونادراً الأكل معه في إناء واحد، ولا يمكن السير أمامه في الطريق أو الدخول قبله من، ولدى قبائل السودان، إذا مات الأب تؤخذ عمامته البيضاء الطويلة ليكفن بجزء منها، والباقي يتعمم به الابن الأكبر فقط .

أما في بعض قرى المغرب يشرب الأبن الأكبر ثم الذي يليه من كأس الأب ماءً قبل التوجه لأعمالهم ، وفي جمهورية بنين في الجنوب الغربي من أفريقيا، لا يخرج أحد من البيت حتى يقف الأب عند باب المنزل ليعطي الأذن بالانصراف، وفي منغوليا يأخذ الابن حفنة من تراب قبر الأب بعد موته ليضعها في بيته، وعند الهندوس، يقبل الابن وزوجته قدم أبيه بالنزول إلي الأسفل ومد يده اليمنى لملامسة رأس أبهام رجل أبيه اليمني وتقبيلها ، أما بألبانيا الإسلامية، فيطرق الألبان غرفة أبيهم لتقبيل رأسه قبل أداء صلاة الفجر وقبل إفطار وسحور أيام رمضان، وأما قبائل بلاد السند، فمن يقتل أب أحد سيقتل أباه في الحال، وفي أفريقيا القديمة، إذ مات الأب، يأكله أبناءه كي تنزل بركاته في دم الأحفاد على حد زعمهم .

هنيئا لمن يجد أباه كل صباح ويكحل عينيه برؤيته، وهنيئاً لمن يجد فرصة ليخدم أبيه، وهنئاً لمن يزور أبيه، وهنيئاً لمن يستمع ويتحدث ويحاور أبيه، فمهما أخطئوا في الحياة معكم، فهم السبب في وجودكم وقراءتكم هذا المقال.

روائي وباحث اجتماعي