على الصامت أحلى!

شاهدته بالسوق مع أهله ومازالت الابتسامة في وجهه! إنه الأصم الذي كنت أراقبه في حارتنا أيام الطفولة، وما زالت تضاريس وجهه الضحوك على عهدها، وابتسامته لم تفارق محياه منذ رأيته أول مرة. كان الرجل الأصم مشهوراً بحارتنا، وكان يوزع على المارة ابتساماته أثناء جلوسه على الرصيف، لقد كان يعوضنا من ابتسامات نفقدها.

خمّنت فتيقنت إن الصبية الذين معه هم أبناءه، الحمد لله، أخيراً تزوج الرجل الأصم! فقلت سألقي عليه التحية كي يتذكرني، فتوجهت إليه، وبمجرد أن رآني أعطاني الأحضان والقبلات، وكأني صديقه المقرب. المشكلة التي واجهتني أني لا أفهم لغة الإشارة، فساعدتني السيدة التي كانت معه « زوجته »، وبعد دقائق رجعت إلي أهلي، حتى حصلنا على مكان شاغـر لتناول وجبتنا، ومازلت مستغرب من ابتساماته الكبيرة، والتي يوزعها على من حوله، إنه ينظر للحياة بابتسامة غير طبيعية، لكن كيف؟

لقد تذكرت! لماذا وكيف يوزع ابتساماته على الجميع، إنه أصم، والأصم لا يسمع الأصوات التي من حوله، إذاً هو لا يسمع الإزعاج، ولايعرف طعمه وتأثيره على آذانه، وهذا مانعاني منه الأن في المول المزدحم المزعج، وكأن الطبلتين تودان الانفجار، نحن والله في خلطة أزعاج مركبة من أصوات الناس، وصوت الألعاب وصالة التزلج وزبائن المطعم، وصراخ ابني الذي يريد وجبة جانك فوود من لحم الفليش البديل.

برهة أرمق بها المارة، وأخرى أرمق ابتسامته الجميلة، حتى توقفت الدموع في محاجر عينيّ، وخاصة عندما أيقنت الحـقيقة التي يعيشها هذا الرجل: إن صاحبنا لم يستمع قط للراديو أو للقنوات الفضائية! إنه لا يعرف ولن يعرف بما يجري حوله، ولا يوجد مصطلح « إزعاج أو ضوضاء » بقاموس ذاكرته، ولم ولن يشعر بما يقال في الأخبار اليومية من قتل وذبح لبني البشر في العراق وسوريا وفلسطين وباقي العالم، وأخبار المشردين من الفيضانات والحرائق والكوارث التي يواجهها سكان الأرض، أو حتى قضية اتساع ثقب الأوزون، ولو فرضنا إنه شاهد بأم عينيه مشهد يدمي القلب، فهذا لن يؤثر عليه كما نحن نواجه أصوات وصرخات الثكلى من الأطفال والنساء.. ولن أنسى كذلك، إنه لا يسمع ثرثرة زوجته وصراخ أولاده عند رجوعه من عمله « مع احترامي للزوجات»، أو تعليقات رئيسه بالعمل!

إذاً هو كمن وضع الدنيا على وضع الصامت Mute، وهو كمن يعيش داخل صندوق زجاجي عازل للصوت مائة بالمائة، ولقد واجهني سؤال عند كتابتي هذا المقال: هل هو سعيد بوضعه؟ أم العكس؟ ربما الإجابة « نعم »، وهو ويبتسم لنا كانعكاس لما يدور داخله من وناسه، أو ربما « لا »، هو حزين ويعـوض حزنه بابتسامات مقنعه تعوضه النقص، لأنه بمعـزل عن الحقيقة الغائبة، وهي عالم الضوضاء الذي نحن في صومعته، وربما الحق أن الدنيا هكذا أطعم، وهذا هو الوضع الصحي بخيرها وشرها، وجنة من غير ناس ما تنداس كما يقال.

روائي وباحث اجتماعي